Tuesday, September 22, 2009

عم محمد

في الواقع أن ما حدث في تلك الليلة لا يمت للواقع بأي صلة, هل كان حلماً؟ لا أدري, هل كانت حقيقة؟ لم أسمع بعد عن تلك الحقيقة التي تصل إلى هذا الحد من الخيال واللامعقول.

لا يهمني الآن ماهية ما حدث, بل أود فقط أن أحكيها, ربما مر أحدهم بما مررت به ويكون لديه تفسير لما رأيته.

كانت الدنيا ليلاً, هذا ما أحسست به, ولكن بالرغم من ذلك كانت الشمس مشرقة أو في طريقها إلى الشروق, أو ربما كانت تغرب, لا أعرف تحديداً, فقط أعرف أنني كنت أحسه ليلاً, وكنت أمشي في طريق مزدحم لا أعرفه, أشبه بالسوق, ولكنه هادئ, بالرغم من كثرة الناس من حولي, لا أعلم لم أنا هنا, ولكنني أمضي إلى بقعة رأيتها خالية منهم, وحين أصل, أجد عربة كارو بدون حمار, ولا عربجي, وبجوارها جوال من الخيش.

لا أدري ما دفعني لتفحص ما بهذا الجوال, ولكنني جلست على ركبتي, ومددت يدي, وشعرت ببرودة غريبة نابعة من الجوال المبلل بالماء, وكأن واضعه أراد ترطيب ما بداخله, لا أدري إن كان هذا ضرورياً, فأنا لا أعلم إن كان الجو حاراً أم بارداً.


مددت يدي إلى الجوال لأرى ما فيه, لأجد بداخله شخص ما, رجل عجوز أحسست بأنني أعرفه , دققت النظر في ملامحه حتى تذكرته, إنه "عم محمد"....

لا أدري من هو "عم محمد" ولكنني عرفته, وكنت أظن أنني أعرفه منذ فترة طويلة, فقمت بحمله وهو داخل جوال الخيش المبلل, لا أدري إلى أين, إحساس بلزوم إعادته إلى أهله امتلكني وقتها, بالرغم من أنني لا أعرف من هم ولا أين أجدهم, ولكنها كانت مسؤولية وضعت على عاتقي وقتها, ولن أترك "عم محمد" حتى يعود إلى منزله.


ولكن أين هو منزله؟


وجدتني أسير بلا هدي في الشوارع, أحمل "عم محمد" على ذراعي كطفل صغير, كان هادئاً وصامتاً, حاولت محادثته كثيراً ولكنه كان لا يرد, كان غارقاً في نوم عميق أو غيبوبة طويلة, ولم يكن هذا ليضايقني, فالرجل بلغ من الكبر ما يشفع له, ولكن ما ضايقني فعلاً هو ما كان يحدث لـ"عم محمد".

حين وجدته في السوق كان على جسده العديد من البقع البنية التي تجدها عند الكثير من كبار السن, وهو ما وجدته طبيعياً, واظنني كنت أراه على هذه الهيئة سابقاً, فقط لا أتذكر أين كنت أراه من الأساس.

ولكن ما رأيته غريباً هو أن هذه البقع يزداد حجمها بإستمرار وتكبر لتغطي مساحات كبيرة من جسده, أو لعل جسده هو الذي يتقلص؟

حين أخدت "عم محمد" للمرة الأولى بين ذراعي, كان ضئيلاً في الحجم فعلاً, ولكن بالتقريب كان طوله بطول نصفي الأعلى, أما الآن.. فأشعر أن جسده يتقلص وينكمش, وبدأت عظامه في البروز والنتوء, وكأنه أصيب بحالة جفاف مفاجئة, ربما بسبب هذا السوائل الكثيرة التي تغطي جلده, كانت في البداية ذات ملمس رطب وبارد, كعرق ليلة صيف تلطفه نسمات خفيفة من الهواء, أما الآن, فقد إزدادت لزوجتها وزاد معدل إفرازها.


ما الذي يحدث لـ"عم محمد"؟ ولم بدأ شكله بالتغير تدريجياً إلى هيئة غير بشرية؟ كنت أسائل نفسي بهذه الأسئلة, حين دخلت النفق, نفق كبير وعظيم, به رصيف أشبه بمحطة القطار, ولكنه أكبر من أي محطة قطارات شهدتها من قبل, به رصيفين, ولكن لا توجد أي خطوط للقطارات, وجدت نفسي بأعلى السلم الكهربائي الذي يوصل لأسفل المحطة, والغريب, أنني كنت أهبط من سقف المحطة, لم أدخل من أي بوابة, فجأة وجدت نفسي على أول السلم, “عم محمد" معلق بكتفي كقطة مذعورة, أكاد أحس بمخالبه تنغرس في كتفي رعباً كلما نزلت على السلم, ولكن لم يكن ذلك ليضايقني, أليس ذلك بغريب؟

لم يكن أي مما يحدث لـ"عم محمد" يضايقني, لا البقع البنية التي تنتشر, ولا جسده الذي يتقلص, ولا جسده الذي أصبح لزجاً, ولا مخالبه التي تنغرس في لحمي ولا حتى تلك الأصوات الغريبة التي بدأ يصدرها, لم أسمعها من قبل, لذا لا أستطيع أن أصفها, كل ما أعرفه أنه لو كنت في ظروف عادية, لكانت قتلتني رعباً, ولكنها ما دامت تصدر من عم محمد, فهي لا تعني شيئاً.

فجأة وجدتني أركض بكل ما أوتيت من قوة, أهرب من صول الجيش الغاضب الذي يطارد المجندين في هذا المكان الذي يشبه محطة القطارات, كنت أخاف على "عم محمد" من ركضي, ولكنني لم أحس به أبداً, كأنه اختفى ولم يعد له أثر, وحين أردت القفز من فوق ماكينة التذاكر -مرة أخرى, ليست بمحطة قطارات- أمسكني الصول الغاضب, مع العديد الآخرين, ووجدنا أنفسنا مصطفين في خنوع وهو يقوم بتقريعنا على استهتارنا, واختصني بالذات لأنه وجدت قميصي بلا أزرار تماماً ومفتوح بشكل وجده هو غير لائق بالجيش, وما يهمني؟؟؟ أنا لست في الجيش, لم ركضت في البداية؟ ولم يوبخني هو؟

10 شارع ألاسكا....

وجدتها تدوي في أرجاء عقلي, لم أسمع عن هذا الشارع من قبل, ولا أدري ما هو هذا العنوان, هل هو "عم محمد"؟ يحاول أن يخبرني إلى أين أذهب؟

لا أدري, ولكنني رأيت أن الذهاب إلى هذا العنوان هو خير ما يمكن أن أفعله تلك الليلة, بدلاً من التجول في الشوارع على غير هدى, وسرت في الشوارع أستدل على "10 شارع ألاسكا" من المارة, وكانوا يجيبونني بشكل عادي, وكأن "عم محمد" الملقى على كتفي ليس بالشيء الغريب, هل يعقل أنا أكون أنا الشخص الوحيد الذي يراه؟

ليست تلك المشكلة الآن, المهم أنني وصلت إلى شارع ألاسكا بالنهاية, سأصف لكم الشارع...

في الحقيقة, هو ليس بشارع, بل هو عبارة عن مربع كبير, على جوانبه الأربعة توجد بيوت كثيرة, متراصة فوق بعضها البعض, لا تدري إن كان هذا المكان راقياً أم فقيراً, له مدخلين, أحدهما هو الشارع الذي دخلت منه والآخر هو عبارة عن طريق منحدر, ذا بوابة معدنية أنيقة, تبدو كأنها مدخل لحديقة, أو لعلها بالفعل حديقة؟


لم أهتم كثيراً بسؤال طرأ على ذهني... إذا هطلت أمطار غزيرة, ألن يتحول هذا المكان إلى بركة كبيرة؟ كيف يعيش هؤلاء الناس هنا؟

بدأت أطرق البيوت, بحثاً عن منزل "عم محمد" وبداخل كل بيت, كنت أرى عائلات كثيرة الأفراد, يعيشون في حالة مزرية, ولكن كلهم لم يهمهم "عم محمد" ولم ينفعني أي منهم في الإستدلال على أهله, حتى عدت مرة أخرى إلى مركز المربع الكبير, على رصيف وضع في المنتصف كأنه ميدان, أنظر حولي في رجاء, منبهر بالطريق المنحدر ذا البوابة الأنيقة, وأحسست ببرودة تمشي على صدري, وتنتقل إلى بطني, وتجول في أنحاء جسدي, إنه "عم محمد" تحرك أخيراً ولكن إلى أين؟ يبدو أنه يريد الوصول إلى أحشائي, أهذا هو جزائي؟

لم أستطع المقاومة, ولم أحاولها, كنت عاجزاً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من ضعف, وهو يحاول ويحاول اختراق جسدي....

لا أدري إن كان قد نجح في ما أراد أم لا, فأنا أقص عليكم ما حدث من ذاكرة ضبابية مشوشة, حتى أنني لا أتذكر شكل "عم محمد" في النهاية, كيف كان, ولا في البداية, كيف وجدته, كل ما أتذكره أنه كان موجوداً, وما زال, ولكنني لا أعرف أين, لعله هو من يكتب هذه الكلمات عن طريقي, ولعله مات بداخلي, لا أدري, هل كان حلماً؟ ربما, هل كان واقعاً؟ قلت لكم في البداية, لا أظن أن هناك واقعاً به ما بهذه الحكاية من خيال.


Monday, July 6, 2009

وما الدنيا إلا....


بعد تفكير عميق وحصر للوقائع والإحداثيات, إكتشفت الآتي:

الدنيا دي عبارة عن بتاعة كبيرة قوي, مليانة حاجات صغيرة كتيرة قوي برضه

الحاجات دي بقى بتعمل إيه؟ انت تسألني, وأنا أجاوبك على طول, أمال إيه, أنا أصلي بحب أخدم, ولو احتجتني في أي حاجة أنا تحت أمرك, ابعتلي بس وأنا هبقى أديلك رقم الموبايل وبتاع, المهم, نرجع لمرجوعنا

الحاجات الصغيرة الكتيرة قوي دي بقى بتعمل إيه؟ بتعمل حاجات كتيرة قوي برضه, بس مش كلها صغيرة, ومش كلها كبيرة برضه, بتختلف من حاجة لحاجة يعني, يعني ممكن حاجة صغيرة تعمل حاجة كبيرة قوي تأثر على حاجات تانية ممكن ما يكونش ليها علاقة بالحاجة اللي عملت الحاجة الكبيرة قوي دي.

وممكن حاجة كبيرة قوي تعمل حاجة صغيرة قوي أو ما تعملش حاجة خالص, يعني لا بتفيد نفسها ولا بتفيد الحاجات التانية, وساعات بتيجي بنتايج مش حلوة تأذي الحاجات اللي حواليها واللي حوالين اللي حواليها.

فاللي احنا المفروض نعمله إيه بقى؟ أنا عايزك تسألني برضه, ما أنا زي ما قلتلك بحب أخدم وبتاع, وبرضه رقم الموبايل موجود لو عايز, انت بس اطلبه, إكمني يعني ما بحبش أفرض نفسي على حد, ما أنا كان ممكن أرميه هنا وأخلص, بس أنا برضه عندي حبة ذوق.

نرجع لمرجوعنا, المفروض نعمل إيه؟

للأمانة الصراحة يعني أنا ما أعرفش, بس أنا بيوهيألي كدة إن الموضوع ده كبير قوي قد البتاعة الكبيرة اللي احنا عايشين فيها دي, وما ينفعش نبص للموضوع من وجهة نظر حاجة واحدة بس, عشان كدة الموضوع هيبقى فيه قصور, والقصور غير مطلوب في مثل هذه الحالات الصعبة والحرجة من التاريخ.

لذا, فأنا من موقعي هذا أستمحيكم عذراً في عدم تقديم أي حلول, يعني إذا كانت الحاجات الكبيرة ما عرفتش تحلها, أنا يعني اللي فتك وناصح قوي وهحلها؟ أنا يا دوب حتة حاجة ولا بتاعة صغننة خلاص قد الفسفوسة, بس بكرة أكبر وأبقى حلو كدة وقوي وأمور, استنوني ساعتها بقى عشان أوعدكم إني مش هعمل أي حاجة خالص في أي حتة.

ودمتم

Saturday, May 30, 2009

قوى الشعب الثائر

تنبيه هام:

السطور القادمة قد تحتوى على أفكار تصطدم مع قارئيها بقوة, لذا وجب التنويه

أنا عايز أتكلم عن شعب مصر العظيم, الشعب المكافح, الفقير, الضحوك, الصابر, المبتلى منذ الأزل, صاحب الدم الخفيف, والأكتر طيبة وسذاجة على مستوى العالم وعلى مر العصور

ماله الشعب ده بقى؟

أنا وصفته باللي أنا شايفه فيه, بس فيه ناس تانية بتحب تديله وصف تاني, الوصف ده بصراحة بيستفزني, لإني مش شايفه ومش حاسس بيه, مش لاقي حاجة واحدة بتحصل بتدل على إنه بيتمتع بالصفة النادرة دي.



الصفة دي هي الثورية, قال إيه.. الشعب المصري شعب ثوري



بأمارة إيه إن شاء الله؟

واللي بيتكلموا عن "ثورجية" الشعب المصري, شافوها فين وامتى وازاي؟؟



الناس متوقعة ثورة تحصل قريب, بسبب الظروف اللي الناس بتمر بيها, بس أنا بقول إن حتى لو الثورة دي حصلت, مش هتطلع من الشعب, صحيح الشعب هيشجعها, ويمشي معاها ويساندها, بس مش هتطلع من الجماهير, هتطلع من ناس واصلة في الجماهير, بإيديها إنها تغير, قيادات هتقوم بالخطوة الأولى ... ويمكن خطوات تانية كتير بعدها كمان, وبعدها الشعب هيكتشف انهم موجودين ويمشوا معاهم (مع الرايجة) ويعلوهم ويوصلهوم للي هم عايزينه, وبعد كدة؟؟

هيسيبوهم يتصرفوا زي ما هم عايزين بإعتبارهم ناس ثقة وجدعان وهم اللي عملوا الثورة.

مش كان فيه حاجة حصلت قبل كدة بالنظام ده؟؟

استنوا افتكر كدة...

أه, اللي بيسموها دي ثورة يوليو المجيدة


أنا رأيي (وده رأي شخصي لا يعبر عن أي اتجاهات سياسية) إن دي لا ثورة ولا يحزنون, دي بكل بساطة وزي ما الناس كلها عارفة (وكدبوني لو عايزين) مجموعة من ظباط الجيش, معترضين على الحالة اللي هم فيها, قالوا يعملوا "حركة" عشان يخلوا الملك يبصلهم, الحركة كبرت ووسعت, ومع إنها ما كانتش على مقاسهم, إلا إنهم بمهارة شديدة يحسدهم عليها أي ترزي "قيفوها" وظبطوها وعملوها ثورة.


وبما إن الشعب الجميل بتاعنا.... "جميل" مشي معاهم ووافقهم ومشي وراهم عشان يطردوا الملك "السكري بتاع النسوان والقمرتي الوحش الكخة" وحطوهم مكانه.

ييجوا يقولوا ثورة شعبية, لأ, لا شعبية ولا يحزنون, ده ببساطة حركة عسكرية قلبت بإنقلاب, والإنقلاب قلب بثورة خلت الملك يمشي وجابوا ملوك تانيين "ميري", وعشان الناس تحس إن فيه حاجة اختلفت, سموا نفسهم "رؤساء جمهورية", وبدل ما التوريث يبقى لأفراد العائلة, بقت للي يعرف يوصل من "الظباط" للكرسي, (محدش لاحظ إن كلهم لحد دلوقتي عسكريين؟).
المصيبة بقى في إيه؟؟
لو اللي مسك الرئاسة ده واحد بيفهم وبتاع ربنا و"ديموقراطي" فعلاً, ما كانش بقى فيه مشكلة, إنما الناس دول زي ما قلت "عسكريين" اتعودوا على الأوامر اللي بتتنفذ بمجرد ما تطلع من بقهم اللي ما بينطقش غير كل حاجة حلوة (الحاجات الحادقة لأ). فصعب عليهم يقبلوا مناقشة أو مراجعة في رأي.

بس دي مش مشكلتي, الناس دي خلاص أنا فقدت الأمل فيهم, أنا عيني على الناس اللي الكل حاطط عليهم الأمل...
الشعب

عايزين الصراحة, أنا برضه فاقد الأمل في الشعب, هتسألوني ليه؟
هقولكم ليه, تعالوا كدة نشوف الشعب عمل إيه في الفترات اللي الحياة كانت فيها ضنك وفقر وهبدأ من بدري قوي, من أيام الهكسوس

أيوة , الهكسوس, اللي احتلوا مصر وطردوا الفراعنة اللي كانوا فيها, والشعب واقف يتفرج, وفضل فترة طويلة ما بيتحركش, لحد ما جه أحمس وخرج بيهم وعمل ثورة, الهدف منها إعادة الفراعنة للحكم, مش تحسين أوضاع الشعب, يعني الثورة جت من ملك علشان الملكية تستمر.

ثورة 1919, قام بيها الشعب عشان فرد "سعد زغلول", قبل نفيه ما حدش اعترض على اللي بيحصل وكانوا مسلمينها للي فوق هم يتصرفوا, وراضيين بالهم والإحتلال, بس لما اتقبض على سعد واتنفى, الدنيا قامت وما قعدتش, ليه؟
عشان الشعب ما كانش عنده البديل عنه, "اتعودوا" عليه وعلى إنه هو اللي بيتكلم عنهم وما تخيلوش انهم ممكن يعملوا حاجة من غيره.

ثورة عرابي, دي ثورة عسكرية برضه, عرابي قام بيها عشان يحسن أوضاع الجيش, وفشلت, عشان كانت من الجيش للجيش, محدش دخل فيها غيرهم.

فيه ثورات تانية؟ ما اظنش, آخرها كان ثورة يوليو "المجيدة" اللي قارفيننا بيها من أكتر من 50 سنة ولحد دولقتي عايشين على حسها وبيتناقشوا في اللي عملته واللي ما عملتوش.

إنسوا يا ناس, 50 سنة دول كتير قوي, فيه حاجات كتير اتغيرت واتبدلت, الدنيا ما بقتش هي الدنيا, هيهمنا في إيه عبد الناصر "كان" بيعمل إيه, ولا السادات "عمل" إيه, اللي يهمنا دلوقتي "إحنا", الناس اللي شبه عايشة دلوقتي ويا ريت عارفين يعيشوا صح.

تقدروا تقولولي بقى إزاي ممكن شعب مطحون زي شعبنا يقوم بثورة؟
إزاي يثور وهو كل ما يتضرب يقول معلش, بكرة ربك هيعدلها؟
وكل ما يموت له واحد محروق أو غرقان أو مخبوط أو مضروب برصاصة ميري يقول منهم لله؟
إزاي هيثور وهو اتعود طول عمره يدعي وبس, من غير ما يعمل اللي يقوي دعائه؟

إزاي يثور وهو ما بيعرفش؟

قال ثوري قال...

مع الإحترام للشعب العظيم

Tuesday, May 12, 2009

وحيد عصره

كنت أظن أن زمن "العلّامة" قد إنتهى, والعلّامة لمن لا يعرف هو ذلك الشخص العالم, المتوسع في علومه, المتمكن منها, أو ما يطلق عليه بالعامية "كشكول", تسأله في أي مجال تجد عنده الإجابة الوافية, ولن تحتاج إلى المراجعة أو البحث والتقصي عن صحة إجاباته, فهي بالتأكيد صحيحة لا يشوبها الخطأ.

والتاريخ – انتبه لكلمة "التاريخ"- ملئ بأمثال هؤلاء, يكفي أن تراجع تاريخ العلوم لترى الكثير والكثير من الشخصيات ممن تمكنوا من علوم الطب والفلك والهندسة والفيزياء والكيمياء واللغة والرياضيات وغيرها الكثير تمكناً تاماً كاملاً والأسماء كثيرة لا يتسع المجال لحصرها هنا.

ولكن أن ترى في زمننا هذا مثل هذا العلّامة, فهو ما أجده غريباً فريداً وباعثاً على الدهش والضحك في آن, فاسمحوا لي أن أحدثكم عن علّامة هذا الزمان, وحيد العصر والأوان, صاحب الخبرات ودائرة معارف الأمور الحياتية المتنقلة... "جوز خالتي".

ومن باب التوضيح, ومراعاة للدقة والصدق, فعلّامتنا ليس من النمط القديم, فهو ليس له في الطور ولا في الطحين, ليس له في علم اللغة, ولا علم الرياضيات, ولا علم الكيمياء, ولا علم الفيزياء ولا علمي علوم ولا حتى حتى علمي علمك, كل شهاداته العلمية تنحصر في أنه "شاف كتير" ولف ودار وأدى الخدمة العسكرية وأتى بما لم تستطعه الأوائل والأوربت والشوتايم مجتمعين.

له من الصفات ما يضعك دوماً في حالة الشك من معلوماتك, فهو حين يتحدث, يحدثك حديث العارف والعالم ببواطن الأمور والخبايا والأسرار, ولك مني الضمان بأنك لن تسمع منه يوماً كلمة "لا أعرف" فهي لم ولن ترد في قاموسه, وهو حين يتحدث أيضاً يندر المتحدثين من بعده, فليس بعد كلامه كلام, ليس لدقته وروعته وكماله, ولكن لأن حديثه لا ينتهي إلا حين يصيبه هو الكلل والملل, وقلما حدث ذلك قبل أن تصبح قدرة الآخرين على الإستماع لأي جديد منعدمة.

ولـ"جوز خالتي" طريقة غريبة في بدء المواضيع, فهو يفتتح الكلام بلفت نظرك إلى أنك مغفل –أو غافل اختر أيهما أسلم لكرامتك- ولا تدري ما تتحدث عنه, وللتدليل على غفلتك يتسلح بكل ما لديه من ذكريات, مقلباً في دفاتر الماضي وكتبه ما يعزز به وجهة نظره في أنك "ما تعرفش حاجة", ويسوق في سبيل ذلك الحكايا والأمثلة التي لا مرجع لها إلا هو فقط, ولربما استجدى بعض التأييد من خالتي نفسها حين تجده فجأة يلتفت إليها سائلاً "مش كدة برضه؟ فاكرة؟" وبالطبع لا ينتظر الإجابة, وتجد خالتي نفسها مؤيدة له بلا داعي, محدثة نفسها بعبارات تنم عن الحرج, ضاحكة في وجوه ناظريها راجية إياهم أن يصبروا على زوجها الذي يسترسل في الحديث, ولكأنه يؤكد مصداقية حكاياه, تجده يتحدث عن شخصيات شاركته صناعة الحدث, لا تعلمها, ولا أظنه هو يعلمها, وأعجب من تلك الذاكرة الحديدية التي تحتفظ بأسماء هؤلاء الأشخاص الثلاثية, ولربما جاء أحد الأسماء مذكراً له بحدث معين, فيقطع ما كان فيه مسترسلاً فاتحاً سيرة أخرى وموضوعاً آخر.

أذكر أنه جاء اجتماع للعائلة في يوم شم النسيم, وجاء الإجتماع على المائدة على سرب صغير من أسماك الرنجة المدخنة, ولا أدري ما دفع بالحوار إلى ناحية البطارخ وعلاقتها بالكافيار... ومداعبة منه... قام أحدهم بنكش "جوز خالتي" سائلاً إياه عن الكافيار وما استجد على أحواله, وللعجب, وللعجب العجاب, وجدناه منطلقاً في الحديث وصائلاً وجائلاً فيما هو بالنسبة إلينا غير معلوم, وأظنه سابقنا جميعاً إلى الجهل به أيضاً.

ويحدثك عن الأحذية فيقول "أصلك إنت مش واخد بالك, الكوتشيات الجديدة دي كلها مضروبة, فين أيام زمان لما كان الكوتشي يقعد بالسنة والسنتين في رجلك كأنه جديد, طب تصدق بإيه؟ أنا عندي كوتشي من أيام الجامعة – اقترب عمره من الخمسين شتاءً- لحد دلوقتي وكنت شاريه بخمسة جنيه, انتوا فاكرين نفسكوا بتعرفوا تشتروا كوتشيات؟ إحنا كنا ننزل أنا وإبراهيم عبد الله, والله يرحمه سعيد محمود, وأحمد حسنين – يعلم الله من هؤلاء- نروح بورسعيد, نقعد نلف ونروح ونيجي- ثم متجهاً إلى خالتي بالتفاتة غير كاملة, لا تحيل وجهه عن محدثه وبالتالي لا يستطيع رؤية خالتي- فاكرة يا ماما؟ لما كنا بنروح مع سعيد الله يرحمه -ثم ملتفتاً إلينا مرة أخرى- أصل بورسعيد زمان كانت غير دلوقتي, كانت حاجة تانية, كانت كل حاجة موجودة, وبرخص التراب, كنا نشتري الجزمة الريدوينج بعشرة جنيه, شوف انت دلوقتي بقى تبقى عاملة كام, وكنت تنزل بيها مصر الناس تقعد تتفرج وتقول جايبها منين وازاي وبكام" وبالطبع لا نملك أمامه إلا السكوت, فلم نكن من خبراء الريدوينج.

أخبرني أحد الثقات في عائلتنا, بعد أن تطرق بنا الحديث إلى سيرة "جوز خالتي" أنه يشاركني نفس الشعور بالنفور منه, ولكنه بحكم الوضع العائلي, مجبر على الاختلاط به, فهو الشر الذي لابد منه في عائلتنا وإن قام بالتحايل على ذلك الشر بأن صار يطلق له العنان في جلساتهم, بدون مقاطعة أو نقاش, وهو ما يستلذ له "جوز خالتي" بشدة فمن موضوع إلى آخر, لن يتوقف هذا الرجل عن الكلام, وهو ما أدركه مخالطوه, فأصبحوا حين يتملكهم الملل وتنتهي محادثاتهم – في بعض الحالات النادرة التي يتحدثون فيها فعلاً- يطلقون لسانه في أي ناحية يريدون, وإن أدركوا أن الموضوع الأهم الذي به يضمنون جلسة خالية من الصمت هو حين يذكرون بشكل خفي وخبيث ما يقوم به في عمله, فقط حين يتطرقون إلى هذا الموضوع يسود الصمت إلا من طرف صاحبنا, حين يقوم بالحكي والإخبار عما يقوم به في وظيفته المهولة, ومهامه العظيمة التي تنوء بحملها الجبال, ومع أن نشاط أعماله موسمي, إلا أنه أصبح بقدرة العلي القدير, دائم طوال العام, لا يكاد صاحبنا بسببه يجد طعماً للراحة, وإن كنت أظن أن سبب إجهاده الدائم هو ما يبذله من طاقة للحفاظ على سيارته المتهالكة التي تعاقبت عليها السنون مع صاحبنا ولم يفكر يوماً في تغييرها أو التخلص منها برغم ما تريه تلك الماكينة من شتى صنوف وأنواع العذاب, وإن كنا في عصر يقال أن المعجزات فيه قد انتهت, إلا أن "جوز خالتي" وعربته قد أثبتا أنه ما زالت هناك معجزة واحدة, وهي قدرة هذه الأعجوبة المتهالكة على السفر لمسافات تتعدى المائتي كيلو متر لعدة مرات في العام بلا مشاكل إلى الآن.

والجدير بالذكر أن هذه السيارة المتهالكة هي إرث قديم من والده, ويعتبر هو "أول مالك" لها, وأظنه من المفهوم والبديهي أنه حين يبدأ الكلام في الميكانيكا, تتحول جميع السيارات بالقدرة الإلهية إلى ألعاب أطفال قام صاحبنا بفكها وتركيبها العديد والعديد من المرات, وبكلام مفعم بالثقة تجد لديه الحل المكين والمتين لأي عطل لديك.

ومن قدرته الفائقة على تركيب السيفونات وإصلاح البوتاجازات, إلى ظبط أطباق الإستقبال وإصلاح أعطال الكهرباء انتهاءً بذبح العجول والخرفان , رأيت نفسي أُذهل بشكل دائم لما لهذا الرجل من إمكانات وقدرات قلَّما وجدت في شخص واحد, وإن كان بعضها صحيحاً, إلا أن لهجة الواثق والعالم بغير علم تجعلني أنفر من أي اجتماع يضمنا منفردين أو في جماعة, فهو فوق طاقتي واحتمالي, وإن كنت أجد في ذلك صعوبة حتى لا أغضب مني الأقارب والأحباب, فهو في النهاية... "جوز خالتي"

Wednesday, February 18, 2009

ألتوفوبيا

من عليائي أرى أرضاً مترامية الأطراف, كالصحراء هي, ولكن ليس فيها ما يشبه الصحراء, ليست من الرمال, وليست من الصخور, تتغير بنيتها على الدوام, فلا تستقر على حال, ولكن على العموم, ليس هذا ما يَهُمني الآن, فلأخرج نفسي من هذه الورطة أولاً.

ما الذي أوصلني إلى هنا؟ أجد نفسي واقفاً على حافة سور, وما السور كله إلا حافة تتسع فقط للوقوف بقلق على خط رفيع عرضه بعرض الأحجار المكونة للسور, والغريب, أن هذا السور لا يحيط بأي بناء, وإذا أردت الدقة, فلأصفه بالحائط, ولكن مرة أخرى, لأي بناء هذا الحائط؟

أنظر من حولي محاذراً من السقوط, يرتجف فكاي هلعاً من فكرة الوقوع, ويفزعني وجودي على هذا الإرتفاع الشاهق أصلاً, أكره المرتفعات, فما الذي أوصلني لهنا؟

بعد أن يئستُ من إيجاد حل للنزول لا تُدَقُّ فيه عنقي, تذكرت كيف كانت قفزاتي في هذه الفيافي المحيطة, قفزات عالية, طويلة, قوية, تبعث في روحي نشوة التحليق عالياً, والخوف من السقوط المفاجئ, وأذكر أن استمتاعي بها كان يزداد كلما علوت, مع أنني كنت كالمشلول على الأرض, أتحرك بصعوبة, وتبدو هيئتي كمن قُدَّ من حجر, فإذا بالحجر يستحيل سحاباً حين أفقد اتصالي بالأرض

أفيق من خواطري لأجدني ما زلت في موضعي, لا يبدو لهذا الوضع من نهاية, هل هذا حلم؟
إذا كان حلماً فلأجرب أن أستيقظ إذاً
محاولة, والأخرى, أجدني أفتح عيناي بصعوبة, جسدي المنهك متدثر بغطاء ثقيل يبعث فيه الدفء, ويطمئن قلبي حين أجدني فوق سريري, وأدرك أنه ما كان إلا حلماً آخر.

Tuesday, February 17, 2009

البعث

المكان أشبه بمحطات القطارات, تجويف في باطن الأرض يتناثر عليه البشر من كل شكل ولون, ولكن هناك ما هو خارج عن المألوف, فتلك القناة التي من المفترض أن تكون مساراً للعربات الحديدية امتلأت بمادة سوداء لها من الحرارة ما يجعل من الصعوبة بمكان أن تتنفس, ومن العجيب وجود من يقوم بالسير فوقها بشكل طبيعي, بل والبعض أخذ يمرح هنا وهناك على ألواح للتزلج, تشق السطح فيظهر من الشقوق ما يوضح لك أن هذه المادة إلا حمم بركانية, يخرج منها الضوء في مشهد بديع, لا يعادله إلا مشهد أشعة الشمس في لحظة غروب صافية.

وقفت مندهشاً مما أرى, ما الذي أتى بي لهذا المكان؟ لست من هواة قطارات الأنفاق, وهذه ليست محطة عادية بالأساس.

فزعت حين رأيت الشقوق التي أحدثها اللاعبون تتسع, تخرج منها أسود لها جسد من نار في مشهدٍ مهيب وجليل, تخيل ما لهذه الكائنات من عظمة طبيعية, أضف إليها النار, لتجد نفسك أمام قوة عظمى, لا تملك أمامها إلا الإستسلام, فإن جاء موتاَ فلا أظنني ممن يفوتون الفرصة للموت بين براثن هذه الكائنات الباهرة.

خرجت الأسود من شقوقها, تزأر وتنشر النار في الأرجاء, لم أحس بخوف ولم أرتعش, كنت مشلولاً, إذا كانت هذه النهاية فمرحباً بها من نهاية, اقترب مني أحدها فلم أتحرك, نظرات نارية نفذت إلى بقايا روحي فلملمتها وخلقت منها روحاً جديدة, وقودها نار ليست قابلة للإنخماد, إنحنيت في تبجيل, فلا يجوز غير هذا.

وكأنني نلت الرضا, أحسست باللهيب يبتعد, يرتاح الجسد وتبقى الشعلة في الروح لا تخبو, تبعث في الحنايا قوة لا تقهر, أغذيها بالكره حيناً, وبالمحبة تزداد سعيراً.

Saturday, January 24, 2009

في ظل الأفعى

إنتهت رحلتي التي لم تدم إلا يوماً في ظل الأفعى, الرواية الأولى ليوسف زيدان, انتهت بمتعة دامت من الصفحة الأولى حتى الثمالة, وكانت بالحق مُدخَلاً شيقاً إلى عالم طالما همت به عشقاً, وأضنيت نفسي مُحاوَلَةً للوصول لأسراره, ولا أزعم أني أفلحت, وما أظنني يوماً مفلحاً.

لطالما استهوتني الأفاعي والثعابين, وكنت أرى في هذه الكائنات عظمةً وسمواً وسحراً تضفي عليها نبلاً تستحقه, وجمالاً ليس الكل مدركه, ولربما لم أُكِنُّ هذا الإعجاب لمخلوق إلا للأفاعي, والقطط, والنساء.

وجائت "ظل الأفعى" لتجلو ما كان عني خافياً, ولكأنني لم أتخلص بعد من بدائية الفكر القديم, فظلت دوماً قابعة بأركان العقل الصورة القديمة للمرأة, والتي اتخذت من الأفعى رمزاً, أو لعلها الأفعى هي من التقطت من المرأة صفاتها, النعومة, القسوة, الرقة, القوة, الجمال, الرهبة, ولا أجرؤ على قول الغدر, فقد بِتُّ مقتنعاً أنا ما وصفت الأفعى بهذا الوصف إلا ليعود الوصف اللعين على المرأة, في زمن أغبر, علا فيه الرجل على المرأة جسداً لا روحاً, حين أراد الكائن الأدنى الحط ممن كانت من قبل ربته, فخلع عليها ما لا يليق بها من الصفات, وكأنه أرد بالإنتقاص منها إعلاء روحه المهمشة في فضاء المرأة الواسع.

لا أدري هل أتحدث عن الرواية أم أتحدث عن نفسي, فإني لأجد أن كل ما قد أقول قد قيل وفُصِّلَ وشُرِحَ باستفاضة بين دفتي الكتاب, بداية بالنظرة الدنيئة لرجل كان شغله الشاغل هو الوصول لامرأته على سريره, ولم يلق يوماً بالاً بالوصول إلى روحها, ولم ير فيها إلا جسداً شهياً, يشبع له الرغبة كلما واتته الفرصة دونما اعتبارٍِ لها.

استُعرِضَت في صفحات الكتاب العديد من الترانيم البابلية والفرعونية التي قيلت في تمجيد عشتار وإيزيس, وكيف أنهن كن الأصل, وفي فترة متأخرة, ظهرت آلهة أخرى ذكورية أقصتها عن موقعها الأصلي.

الكتاب تجربة تاريخية رائعة, لا أستطيع اختزالها فأُقلُ من قدرها, لذا أدعو كل من قرأ كلماتي هذه لقراءة هذه الرواية, والإستمتاع مضمون.



إلى رَبَّةِ الأشياءِ كُلَّها
سَيَّدَةِ السماءِ والأرضِ, عَشْتَارَ
المالكةِ
التي سَارَت في العَمَاءِ المخيفِ,
فأَوجَدَتِ الأشياءَ بالمحبَّة.

(ترنيمة بابلية, القرن 17 ق.م)

Saturday, January 17, 2009

لَقطة

المارة بهذا المكان لا يسعهم إلا الإستغراب, فالمرأيُّ غيرُ معتاد, نظامٌ لم يعتادوه في هذه الأماكن بالذات, ولعل هذا الموضع هو الوحيد ممن يطبقون النظام, الإنتظارُ في طوابير, من يأتي أولاً, يركب أولاً, لا يوجد طابورٌ خاصٌ بالسيدات, فالعدل يقتضي المساواة, إلّا في ظروف استثنائية, كان أحدها هو ما أحكيه لكم الآن.

في مكانه بالصف, يُدافِعُ مللاً نشأ مع طول الإنتظار, ينظر فيمن حوله, يرقب حديثاً ينشأ بين زميلين تعارفا في الطابور, شِجارٌ بين المنتظرين في الصف المجاور اعتراضاً على أحد المخترقين لحُرمة النظام, فتاة لها من الجمال ما يدير رأسه نحوها وهي تمر بهم مستعجبة, كَهلٌ يسعى بين الواقفين عارضاً بضاعته الرقيقة, مستدراً للعطف لا راغباً في البيع, بخطوات هدها الكبر وزادها البرد وجعاً على وجع.

زاد به الملل وملأ جوانبه, ففاضت منه زفرات تأفُّف تحمل معها بعضاً منه, ولكنها لم تكن لتخفف من وطأته, فقد طالت الوقفة هذه المرة, وأصحاب الطابور الثاني لهم من العربات نصيبٌ أكبر, تَأخُر الوقت يعني قِلةُ الراغبين في الإتيان حيث هو, حارمين إياه من فرصةٍ للركوب هو بأشد الحاجة إليها بعد يومه المضني.

لَمِحَ العربة الصغيرة, بلونيها المتنقاضين, تحتل منها الفتاة مساحة المقعد الخلفي, تتوقف العربة أمامه, ضيقٌ ظاهر على وجه الفتاة, زاده مماطلة السائق في الحساب, استشف للغضب مبَرِراً وهو الوقت المتأخر, وهيئة الطابور لا تنبئ بسرعة الوصول إلى البيت, وقام هو بعدِّ الموجودين, فوجد الحسابات في غير صالحها, سيسبقها هو في الركوب, وتظل هي إلى ما شاء الله منتظرة, ولا أظن الإنتظار محبباً لها, فالوقت متأخرٌ عن منتصف الليل بنصف ساعة, وبُناءً على سابق خبرته بطول الإنتظار, توقع لها ما لا يقل عن الساعة وقوفاً قبل أن تنال مرادها.
لو اختلفت الظروف, لَما احتلت هذه المساحة من تفكيره, ولكنه الآن مشغول بها, أقلقته الفكرة, أن تُضطر للإنتظار طويلاً في هذا الوقت المتأخر, ولا يظن أحداً من الواقفين على استعداد لتبادل الأماكن معها, أنانية جماعية تُعلي من قيمة المصلحة الشخصية على الإعتبارات الأخلاقية, يشُك في أن يقبل أي منهم ما يحدث لها إن تبدلت الأوضاع وكانت إحدى من يهتم لأمرهن.

دار بخُلده الخاطر, ما المانع أن يذهب إليها, يخبرها عن استعداده لأن يتنازل لها عن مكانه في الطابور, رفقاً بها من الإنتظار المُهين في هذا الوقت, أحجم, فلا يريد أن تظنَّ بعرضه الظنون, ليس راغباً في التقرب إليها, ولا يهدف من وراء رغبته إلا التَرَفُقِ بها, ولكن ماذا عمَّن حولهم؟ أليس من الجائز أن يروا فيما سيفعل تَمَلُقاً وادَّعاءً يوقعهم في الحرج, وقد يرون في ما سيفعله عنترية قد تصبح مجالاً للتندر, لا يهم, فليس فيما يريد ما يُعيب, ولن تمنعه ظنون الآخرين من عمل ما يراه صواباً, ولكنه الخجل, يخجل من أن يذهب إليها, يتحدث معها, يعرض عليها نيَّته, ليس من طبعه الحديث مع الغرباء, وبالذات إن كُنَّ فتيات, فكيف يذهب إليها في هذا الجمع؟, ومن أين تواتيه الشجاعة للتصدي لعيونهم المتسائلة؟ فآخر ما يرغب فيه أن يكون محطُّ الأنظار وبؤرة الإنتباه.

طاف بوجوه المحيطين, عله يجد ما يطرح عنه الخجل, كُلُّ في عالمه الخاص, لا يلقون بالاً لهذه الفتاة أو غيرها, رأي ذلك الرجل وعائلته, خُيّل إليه أنه إليهم ذاهب, مستأذنٌ من الرجل أن يرسل زوجته إليها ناقلةً ما ينتوي, حارت عيناه بين الرجل والفتاة, تململت الأرض تحت أقدامه, أشعل سيجارة يُشاغل بها نفسه ويُمهلها, يتردد بين عدم المبالاة وما يراه صائباً, ينتهز فرصةً علا فيها صوت الصواب, يمشي بخطوات وَجٍلة, لا سبيل الآن للتراجع, سيبدو المشهد مضحكاً إن توقف في المنتصف بلا هدف, يذهب إليه, يميل على أذنيه, بصوت كالهمس, وكأنما يدلي برغبة محرمة, يخبره, نظرةُ عدمٍ فهم في عينيه, تلتقط زوجته الهدف, وتبدي تفهماً أكثر, تذهب إليها وتخبرها, بينما يقف هو مع الرجل يخبره عن خجله من الذهاب إليها بنفسه, ويرقب الزوجة من بعيد, يراها تتحدث إليها, الفتاة تبدو متفاجئة, تأتي مع الزوجة, ويذهب هو إلى حيث كانت واقفة, تستوقفه كلمة شكر لم يطلبها, ويرد بخجل جعل من أذنيه منبعاً للدم, ويتخذ مكانه في الصف راضياً, يتحدث أحدهم بأن ما فعله كان واجباً منذ جاءت, يوافقه بهمهمات غامضة, ويشعل سيجارة أخرى مداراة للتوتر, ينشغل بمتابعة الحركة في الطريق, ولا يلتفت ناحيتها مطلقاً, لا يريد أن يُفسَّر ما فعله على أنه محاولة للإستمالة, البرد لا يرحم, والضجيج لا ينتهي برغم تأخر الوقت, يدعو في سره ألا تأتي العربات تباعاً ويركبان في نفس التوقيت, فيكون حرجه بلا طائل, وتتحقق الأمنية, تركب هي أولاً ويبقى هو منتظراً, تأتي عربته, ويركب, يتلكأ السائق كثيراً, ولكنه لا يعترض, يتأفف من تيار هواء لا يدري من أي يأتي, ينفذ إلى عظامه نفاذ السكين في قالَبٍ من الزُبد الطري, ولكم يشتهي الآن نوماً, ولكن هيهات, فخناجر الهواء وحديث مجاوريه لا يسمحان, ولم يعتد هو بالأصل النوم أثناء الترحال, , يمضي به الطريق, لا يشغله إلا الوصول إلى دفء المنزل, تُرى, أيجد قطته مستيقظة حين يصل؟ يريد أن يلاعبها قليلاً قبل نومه, جلسته تبعث الألم في جسده, مالهم لا يهتمون بهذه المقاعد؟ ينشغل بألم الجسد طوال الطريق, حتى يصل لوجهته, المزيد من الإنتظار ليصل إلى منزله, إنتظارُ في انتظار, ولكنه بصبرِ المعتاد لا يتململ, ويصعد الدرجات إلى بيته لاعناً المواصلات والزحام, ممنياً النفس بغدِ أفضل.

Thursday, January 15, 2009

عظمة زائفة

تندفع إلى أذنيه الأصوات، ضجيج وصخب اعتاده برغم عدم قدرته على إحتماله، يحاول التآلف معه فَيُحَوِّر الأصوات علَّه يخلق من هذا العبث ما تطرب له أذنيه، أصوات الدواليب المندفعة على أسفلت يحاكي لونه السواد، وأصوات بشر يتداخل بعضها ببعض بين فرح وغضب ولا مبالاة، وأنين صمت يجاهد ليجد له وسط الزحام موضعاً فيرتد خائباً وكأن السكون لم يقدر له أن يحيا في هذا المكان بالذات. 
جرت عادته على المشي سريعاً, لا تدري أهروبٌ هو ممن حوله, أم رغبةً في استباق الجميع إلى ما لا يعرفه, إنطلقت عيناه إلى أفق اعتاد مرآه فوجده اليوم على إختلاف, تراءت له القبة والمآذن, بناءٌ له من العظمة ما يأسر القلوب ويبعث في جنباتها الرهبة, ماله اليوم يبدو مختلفاً؟ القبة هي هي, بإستدارتها الغير كاملة, وكأنما أراد بانيها احتواء السماء ولكنها استعصت عليه, فاكتفى بجزء منها تضمنته الأحجار فَرِحة بنصر زائف على جبروت الفضاء. صراع احتدم بين السماء بظلامها والقبة المغتصبة, دار في خياله, تخيل صولات وجولات بين الكائنين العظيمين, انتهت برضوخ الكيان الأعلى لرغبة الأدنى في اقتباس البعض من عظمته, وما يضير السماء اغتصاب هذا البنيان الضئيل بعضاً من عظمتها؟ لن ينقص من قدرها شيئاً ولن تتعالى الضحكات ساخرة من ضعفها, فليس في الأمر ضعف ولا قوة, بل تعالي المانح وسمو الواهب على من أراد ما ليس له, فيعطي مستهزءاً من تفاهة مقدار ما يعطي. تراءت له عظمة الهيئة برغم تفاهة المضمون, فطافت بين ثنايا فكره خيالات, ما أعجب هذا الإنسان, يتطاول في بنيان ما لا يقدر على الإلمام به, فمن كان يتحدى حين رفع هذا الكيان على الأرض طمعاً في البعض من السماء؟ نظر بعيني الحقيقة إلى الأبراج الشاهقة من حوله, نظرة مختلفة, تغاير الأولى وتبعث في روحه تساؤلات من نوع آخر, يراها هي الأقرب إلى الواقع, لم تقم رغبة في اغتصاب ما ليس لها, بل خُلٍقَت لتحتوي بانيها بكل ما له وما فيه, بحياته ومماته, بحركته وجموده, بفرحه وحزنه, بغضبه وفرحه, لا تجد بين جنباتها ما يبعث في الروح تساؤلات, فكل ما فيها واضح وصريح, لا مواراة ولا مداراة. عبثاً حاول من قبل تخيل ما يجري في هذه الأبنية, تخيل البشر في رحلات ذهابٍ وإيابٍ دائمة, لم يسعفه عقله المحدود على التخيل حتى, ما يلبث بعد قليلٍ إلا أن يعلن الإستسلام ويذعن لما يراه عصياً على الإحاطة, ويمضي في طريقه لا يهمه إلا اللحاق بالركب, فالجوع قارص, والجسد متعب, ولا مجال للإنشغال عنهما إن علا صوتهما وظهرت شكواهما