Saturday, January 24, 2009

في ظل الأفعى

إنتهت رحلتي التي لم تدم إلا يوماً في ظل الأفعى, الرواية الأولى ليوسف زيدان, انتهت بمتعة دامت من الصفحة الأولى حتى الثمالة, وكانت بالحق مُدخَلاً شيقاً إلى عالم طالما همت به عشقاً, وأضنيت نفسي مُحاوَلَةً للوصول لأسراره, ولا أزعم أني أفلحت, وما أظنني يوماً مفلحاً.

لطالما استهوتني الأفاعي والثعابين, وكنت أرى في هذه الكائنات عظمةً وسمواً وسحراً تضفي عليها نبلاً تستحقه, وجمالاً ليس الكل مدركه, ولربما لم أُكِنُّ هذا الإعجاب لمخلوق إلا للأفاعي, والقطط, والنساء.

وجائت "ظل الأفعى" لتجلو ما كان عني خافياً, ولكأنني لم أتخلص بعد من بدائية الفكر القديم, فظلت دوماً قابعة بأركان العقل الصورة القديمة للمرأة, والتي اتخذت من الأفعى رمزاً, أو لعلها الأفعى هي من التقطت من المرأة صفاتها, النعومة, القسوة, الرقة, القوة, الجمال, الرهبة, ولا أجرؤ على قول الغدر, فقد بِتُّ مقتنعاً أنا ما وصفت الأفعى بهذا الوصف إلا ليعود الوصف اللعين على المرأة, في زمن أغبر, علا فيه الرجل على المرأة جسداً لا روحاً, حين أراد الكائن الأدنى الحط ممن كانت من قبل ربته, فخلع عليها ما لا يليق بها من الصفات, وكأنه أرد بالإنتقاص منها إعلاء روحه المهمشة في فضاء المرأة الواسع.

لا أدري هل أتحدث عن الرواية أم أتحدث عن نفسي, فإني لأجد أن كل ما قد أقول قد قيل وفُصِّلَ وشُرِحَ باستفاضة بين دفتي الكتاب, بداية بالنظرة الدنيئة لرجل كان شغله الشاغل هو الوصول لامرأته على سريره, ولم يلق يوماً بالاً بالوصول إلى روحها, ولم ير فيها إلا جسداً شهياً, يشبع له الرغبة كلما واتته الفرصة دونما اعتبارٍِ لها.

استُعرِضَت في صفحات الكتاب العديد من الترانيم البابلية والفرعونية التي قيلت في تمجيد عشتار وإيزيس, وكيف أنهن كن الأصل, وفي فترة متأخرة, ظهرت آلهة أخرى ذكورية أقصتها عن موقعها الأصلي.

الكتاب تجربة تاريخية رائعة, لا أستطيع اختزالها فأُقلُ من قدرها, لذا أدعو كل من قرأ كلماتي هذه لقراءة هذه الرواية, والإستمتاع مضمون.



إلى رَبَّةِ الأشياءِ كُلَّها
سَيَّدَةِ السماءِ والأرضِ, عَشْتَارَ
المالكةِ
التي سَارَت في العَمَاءِ المخيفِ,
فأَوجَدَتِ الأشياءَ بالمحبَّة.

(ترنيمة بابلية, القرن 17 ق.م)

Saturday, January 17, 2009

لَقطة

المارة بهذا المكان لا يسعهم إلا الإستغراب, فالمرأيُّ غيرُ معتاد, نظامٌ لم يعتادوه في هذه الأماكن بالذات, ولعل هذا الموضع هو الوحيد ممن يطبقون النظام, الإنتظارُ في طوابير, من يأتي أولاً, يركب أولاً, لا يوجد طابورٌ خاصٌ بالسيدات, فالعدل يقتضي المساواة, إلّا في ظروف استثنائية, كان أحدها هو ما أحكيه لكم الآن.

في مكانه بالصف, يُدافِعُ مللاً نشأ مع طول الإنتظار, ينظر فيمن حوله, يرقب حديثاً ينشأ بين زميلين تعارفا في الطابور, شِجارٌ بين المنتظرين في الصف المجاور اعتراضاً على أحد المخترقين لحُرمة النظام, فتاة لها من الجمال ما يدير رأسه نحوها وهي تمر بهم مستعجبة, كَهلٌ يسعى بين الواقفين عارضاً بضاعته الرقيقة, مستدراً للعطف لا راغباً في البيع, بخطوات هدها الكبر وزادها البرد وجعاً على وجع.

زاد به الملل وملأ جوانبه, ففاضت منه زفرات تأفُّف تحمل معها بعضاً منه, ولكنها لم تكن لتخفف من وطأته, فقد طالت الوقفة هذه المرة, وأصحاب الطابور الثاني لهم من العربات نصيبٌ أكبر, تَأخُر الوقت يعني قِلةُ الراغبين في الإتيان حيث هو, حارمين إياه من فرصةٍ للركوب هو بأشد الحاجة إليها بعد يومه المضني.

لَمِحَ العربة الصغيرة, بلونيها المتنقاضين, تحتل منها الفتاة مساحة المقعد الخلفي, تتوقف العربة أمامه, ضيقٌ ظاهر على وجه الفتاة, زاده مماطلة السائق في الحساب, استشف للغضب مبَرِراً وهو الوقت المتأخر, وهيئة الطابور لا تنبئ بسرعة الوصول إلى البيت, وقام هو بعدِّ الموجودين, فوجد الحسابات في غير صالحها, سيسبقها هو في الركوب, وتظل هي إلى ما شاء الله منتظرة, ولا أظن الإنتظار محبباً لها, فالوقت متأخرٌ عن منتصف الليل بنصف ساعة, وبُناءً على سابق خبرته بطول الإنتظار, توقع لها ما لا يقل عن الساعة وقوفاً قبل أن تنال مرادها.
لو اختلفت الظروف, لَما احتلت هذه المساحة من تفكيره, ولكنه الآن مشغول بها, أقلقته الفكرة, أن تُضطر للإنتظار طويلاً في هذا الوقت المتأخر, ولا يظن أحداً من الواقفين على استعداد لتبادل الأماكن معها, أنانية جماعية تُعلي من قيمة المصلحة الشخصية على الإعتبارات الأخلاقية, يشُك في أن يقبل أي منهم ما يحدث لها إن تبدلت الأوضاع وكانت إحدى من يهتم لأمرهن.

دار بخُلده الخاطر, ما المانع أن يذهب إليها, يخبرها عن استعداده لأن يتنازل لها عن مكانه في الطابور, رفقاً بها من الإنتظار المُهين في هذا الوقت, أحجم, فلا يريد أن تظنَّ بعرضه الظنون, ليس راغباً في التقرب إليها, ولا يهدف من وراء رغبته إلا التَرَفُقِ بها, ولكن ماذا عمَّن حولهم؟ أليس من الجائز أن يروا فيما سيفعل تَمَلُقاً وادَّعاءً يوقعهم في الحرج, وقد يرون في ما سيفعله عنترية قد تصبح مجالاً للتندر, لا يهم, فليس فيما يريد ما يُعيب, ولن تمنعه ظنون الآخرين من عمل ما يراه صواباً, ولكنه الخجل, يخجل من أن يذهب إليها, يتحدث معها, يعرض عليها نيَّته, ليس من طبعه الحديث مع الغرباء, وبالذات إن كُنَّ فتيات, فكيف يذهب إليها في هذا الجمع؟, ومن أين تواتيه الشجاعة للتصدي لعيونهم المتسائلة؟ فآخر ما يرغب فيه أن يكون محطُّ الأنظار وبؤرة الإنتباه.

طاف بوجوه المحيطين, عله يجد ما يطرح عنه الخجل, كُلُّ في عالمه الخاص, لا يلقون بالاً لهذه الفتاة أو غيرها, رأي ذلك الرجل وعائلته, خُيّل إليه أنه إليهم ذاهب, مستأذنٌ من الرجل أن يرسل زوجته إليها ناقلةً ما ينتوي, حارت عيناه بين الرجل والفتاة, تململت الأرض تحت أقدامه, أشعل سيجارة يُشاغل بها نفسه ويُمهلها, يتردد بين عدم المبالاة وما يراه صائباً, ينتهز فرصةً علا فيها صوت الصواب, يمشي بخطوات وَجٍلة, لا سبيل الآن للتراجع, سيبدو المشهد مضحكاً إن توقف في المنتصف بلا هدف, يذهب إليه, يميل على أذنيه, بصوت كالهمس, وكأنما يدلي برغبة محرمة, يخبره, نظرةُ عدمٍ فهم في عينيه, تلتقط زوجته الهدف, وتبدي تفهماً أكثر, تذهب إليها وتخبرها, بينما يقف هو مع الرجل يخبره عن خجله من الذهاب إليها بنفسه, ويرقب الزوجة من بعيد, يراها تتحدث إليها, الفتاة تبدو متفاجئة, تأتي مع الزوجة, ويذهب هو إلى حيث كانت واقفة, تستوقفه كلمة شكر لم يطلبها, ويرد بخجل جعل من أذنيه منبعاً للدم, ويتخذ مكانه في الصف راضياً, يتحدث أحدهم بأن ما فعله كان واجباً منذ جاءت, يوافقه بهمهمات غامضة, ويشعل سيجارة أخرى مداراة للتوتر, ينشغل بمتابعة الحركة في الطريق, ولا يلتفت ناحيتها مطلقاً, لا يريد أن يُفسَّر ما فعله على أنه محاولة للإستمالة, البرد لا يرحم, والضجيج لا ينتهي برغم تأخر الوقت, يدعو في سره ألا تأتي العربات تباعاً ويركبان في نفس التوقيت, فيكون حرجه بلا طائل, وتتحقق الأمنية, تركب هي أولاً ويبقى هو منتظراً, تأتي عربته, ويركب, يتلكأ السائق كثيراً, ولكنه لا يعترض, يتأفف من تيار هواء لا يدري من أي يأتي, ينفذ إلى عظامه نفاذ السكين في قالَبٍ من الزُبد الطري, ولكم يشتهي الآن نوماً, ولكن هيهات, فخناجر الهواء وحديث مجاوريه لا يسمحان, ولم يعتد هو بالأصل النوم أثناء الترحال, , يمضي به الطريق, لا يشغله إلا الوصول إلى دفء المنزل, تُرى, أيجد قطته مستيقظة حين يصل؟ يريد أن يلاعبها قليلاً قبل نومه, جلسته تبعث الألم في جسده, مالهم لا يهتمون بهذه المقاعد؟ ينشغل بألم الجسد طوال الطريق, حتى يصل لوجهته, المزيد من الإنتظار ليصل إلى منزله, إنتظارُ في انتظار, ولكنه بصبرِ المعتاد لا يتململ, ويصعد الدرجات إلى بيته لاعناً المواصلات والزحام, ممنياً النفس بغدِ أفضل.

Thursday, January 15, 2009

عظمة زائفة

تندفع إلى أذنيه الأصوات، ضجيج وصخب اعتاده برغم عدم قدرته على إحتماله، يحاول التآلف معه فَيُحَوِّر الأصوات علَّه يخلق من هذا العبث ما تطرب له أذنيه، أصوات الدواليب المندفعة على أسفلت يحاكي لونه السواد، وأصوات بشر يتداخل بعضها ببعض بين فرح وغضب ولا مبالاة، وأنين صمت يجاهد ليجد له وسط الزحام موضعاً فيرتد خائباً وكأن السكون لم يقدر له أن يحيا في هذا المكان بالذات. 
جرت عادته على المشي سريعاً, لا تدري أهروبٌ هو ممن حوله, أم رغبةً في استباق الجميع إلى ما لا يعرفه, إنطلقت عيناه إلى أفق اعتاد مرآه فوجده اليوم على إختلاف, تراءت له القبة والمآذن, بناءٌ له من العظمة ما يأسر القلوب ويبعث في جنباتها الرهبة, ماله اليوم يبدو مختلفاً؟ القبة هي هي, بإستدارتها الغير كاملة, وكأنما أراد بانيها احتواء السماء ولكنها استعصت عليه, فاكتفى بجزء منها تضمنته الأحجار فَرِحة بنصر زائف على جبروت الفضاء. صراع احتدم بين السماء بظلامها والقبة المغتصبة, دار في خياله, تخيل صولات وجولات بين الكائنين العظيمين, انتهت برضوخ الكيان الأعلى لرغبة الأدنى في اقتباس البعض من عظمته, وما يضير السماء اغتصاب هذا البنيان الضئيل بعضاً من عظمتها؟ لن ينقص من قدرها شيئاً ولن تتعالى الضحكات ساخرة من ضعفها, فليس في الأمر ضعف ولا قوة, بل تعالي المانح وسمو الواهب على من أراد ما ليس له, فيعطي مستهزءاً من تفاهة مقدار ما يعطي. تراءت له عظمة الهيئة برغم تفاهة المضمون, فطافت بين ثنايا فكره خيالات, ما أعجب هذا الإنسان, يتطاول في بنيان ما لا يقدر على الإلمام به, فمن كان يتحدى حين رفع هذا الكيان على الأرض طمعاً في البعض من السماء؟ نظر بعيني الحقيقة إلى الأبراج الشاهقة من حوله, نظرة مختلفة, تغاير الأولى وتبعث في روحه تساؤلات من نوع آخر, يراها هي الأقرب إلى الواقع, لم تقم رغبة في اغتصاب ما ليس لها, بل خُلٍقَت لتحتوي بانيها بكل ما له وما فيه, بحياته ومماته, بحركته وجموده, بفرحه وحزنه, بغضبه وفرحه, لا تجد بين جنباتها ما يبعث في الروح تساؤلات, فكل ما فيها واضح وصريح, لا مواراة ولا مداراة. عبثاً حاول من قبل تخيل ما يجري في هذه الأبنية, تخيل البشر في رحلات ذهابٍ وإيابٍ دائمة, لم يسعفه عقله المحدود على التخيل حتى, ما يلبث بعد قليلٍ إلا أن يعلن الإستسلام ويذعن لما يراه عصياً على الإحاطة, ويمضي في طريقه لا يهمه إلا اللحاق بالركب, فالجوع قارص, والجسد متعب, ولا مجال للإنشغال عنهما إن علا صوتهما وظهرت شكواهما