كنت أظن أن زمن "العلّامة" قد إنتهى, والعلّامة لمن لا يعرف هو ذلك الشخص العالم, المتوسع في علومه, المتمكن منها, أو ما يطلق عليه بالعامية "كشكول", تسأله في أي مجال تجد عنده الإجابة الوافية, ولن تحتاج إلى المراجعة أو البحث والتقصي عن صحة إجاباته, فهي بالتأكيد صحيحة لا يشوبها الخطأ.
والتاريخ – انتبه لكلمة "التاريخ"- ملئ بأمثال هؤلاء, يكفي أن تراجع تاريخ العلوم لترى الكثير والكثير من الشخصيات ممن تمكنوا من علوم الطب والفلك والهندسة والفيزياء والكيمياء واللغة والرياضيات وغيرها الكثير تمكناً تاماً كاملاً والأسماء كثيرة لا يتسع المجال لحصرها هنا.
ولكن أن ترى في زمننا هذا مثل هذا العلّامة, فهو ما أجده غريباً فريداً وباعثاً على الدهش والضحك في آن, فاسمحوا لي أن أحدثكم عن علّامة هذا الزمان, وحيد العصر والأوان, صاحب الخبرات ودائرة معارف الأمور الحياتية المتنقلة... "جوز خالتي".
ومن باب التوضيح, ومراعاة للدقة والصدق, فعلّامتنا ليس من النمط القديم, فهو ليس له في الطور ولا في الطحين, ليس له في علم اللغة, ولا علم الرياضيات, ولا علم الكيمياء, ولا علم الفيزياء ولا علمي علوم ولا حتى حتى علمي علمك, كل شهاداته العلمية تنحصر في أنه "شاف كتير" ولف ودار وأدى الخدمة العسكرية وأتى بما لم تستطعه الأوائل والأوربت والشوتايم مجتمعين.
له من الصفات ما يضعك دوماً في حالة الشك من معلوماتك, فهو حين يتحدث, يحدثك حديث العارف والعالم ببواطن الأمور والخبايا والأسرار, ولك مني الضمان بأنك لن تسمع منه يوماً كلمة "لا أعرف" فهي لم ولن ترد في قاموسه, وهو حين يتحدث أيضاً يندر المتحدثين من بعده, فليس بعد كلامه كلام, ليس لدقته وروعته وكماله, ولكن لأن حديثه لا ينتهي إلا حين يصيبه هو الكلل والملل, وقلما حدث ذلك قبل أن تصبح قدرة الآخرين على الإستماع لأي جديد منعدمة.
ولـ"جوز خالتي" طريقة غريبة في بدء المواضيع, فهو يفتتح الكلام بلفت نظرك إلى أنك مغفل –أو غافل اختر أيهما أسلم لكرامتك- ولا تدري ما تتحدث عنه, وللتدليل على غفلتك يتسلح بكل ما لديه من ذكريات, مقلباً في دفاتر الماضي وكتبه ما يعزز به وجهة نظره في أنك "ما تعرفش حاجة", ويسوق في سبيل ذلك الحكايا والأمثلة التي لا مرجع لها إلا هو فقط, ولربما استجدى بعض التأييد من خالتي نفسها حين تجده فجأة يلتفت إليها سائلاً "مش كدة برضه؟ فاكرة؟" وبالطبع لا ينتظر الإجابة, وتجد خالتي نفسها مؤيدة له بلا داعي, محدثة نفسها بعبارات تنم عن الحرج, ضاحكة في وجوه ناظريها راجية إياهم أن يصبروا على زوجها الذي يسترسل في الحديث, ولكأنه يؤكد مصداقية حكاياه, تجده يتحدث عن شخصيات شاركته صناعة الحدث, لا تعلمها, ولا أظنه هو يعلمها, وأعجب من تلك الذاكرة الحديدية التي تحتفظ بأسماء هؤلاء الأشخاص الثلاثية, ولربما جاء أحد الأسماء مذكراً له بحدث معين, فيقطع ما كان فيه مسترسلاً فاتحاً سيرة أخرى وموضوعاً آخر.
أذكر أنه جاء اجتماع للعائلة في يوم شم النسيم, وجاء الإجتماع على المائدة على سرب صغير من أسماك الرنجة المدخنة, ولا أدري ما دفع بالحوار إلى ناحية البطارخ وعلاقتها بالكافيار... ومداعبة منه... قام أحدهم بنكش "جوز خالتي" سائلاً إياه عن الكافيار وما استجد على أحواله, وللعجب, وللعجب العجاب, وجدناه منطلقاً في الحديث وصائلاً وجائلاً فيما هو بالنسبة إلينا غير معلوم, وأظنه سابقنا جميعاً إلى الجهل به أيضاً.
ويحدثك عن الأحذية فيقول "أصلك إنت مش واخد بالك, الكوتشيات الجديدة دي كلها مضروبة, فين أيام زمان لما كان الكوتشي يقعد بالسنة والسنتين في رجلك كأنه جديد, طب تصدق بإيه؟ أنا عندي كوتشي من أيام الجامعة – اقترب عمره من الخمسين شتاءً- لحد دلوقتي وكنت شاريه بخمسة جنيه, انتوا فاكرين نفسكوا بتعرفوا تشتروا كوتشيات؟ إحنا كنا ننزل أنا وإبراهيم عبد الله, والله يرحمه سعيد محمود, وأحمد حسنين – يعلم الله من هؤلاء- نروح بورسعيد, نقعد نلف ونروح ونيجي- ثم متجهاً إلى خالتي بالتفاتة غير كاملة, لا تحيل وجهه عن محدثه وبالتالي لا يستطيع رؤية خالتي- فاكرة يا ماما؟ لما كنا بنروح مع سعيد الله يرحمه -ثم ملتفتاً إلينا مرة أخرى- أصل بورسعيد زمان كانت غير دلوقتي, كانت حاجة تانية, كانت كل حاجة موجودة, وبرخص التراب, كنا نشتري الجزمة الريدوينج بعشرة جنيه, شوف انت دلوقتي بقى تبقى عاملة كام, وكنت تنزل بيها مصر الناس تقعد تتفرج وتقول جايبها منين وازاي وبكام" وبالطبع لا نملك أمامه إلا السكوت, فلم نكن من خبراء الريدوينج.
أخبرني أحد الثقات في عائلتنا, بعد أن تطرق بنا الحديث إلى سيرة "جوز خالتي" أنه يشاركني نفس الشعور بالنفور منه, ولكنه بحكم الوضع العائلي, مجبر على الاختلاط به, فهو الشر الذي لابد منه في عائلتنا وإن قام بالتحايل على ذلك الشر بأن صار يطلق له العنان في جلساتهم, بدون مقاطعة أو نقاش, وهو ما يستلذ له "جوز خالتي" بشدة فمن موضوع إلى آخر, لن يتوقف هذا الرجل عن الكلام, وهو ما أدركه مخالطوه, فأصبحوا حين يتملكهم الملل وتنتهي محادثاتهم – في بعض الحالات النادرة التي يتحدثون فيها فعلاً- يطلقون لسانه في أي ناحية يريدون, وإن أدركوا أن الموضوع الأهم الذي به يضمنون جلسة خالية من الصمت هو حين يذكرون بشكل خفي وخبيث ما يقوم به في عمله, فقط حين يتطرقون إلى هذا الموضوع يسود الصمت إلا من طرف صاحبنا, حين يقوم بالحكي والإخبار عما يقوم به في وظيفته المهولة, ومهامه العظيمة التي تنوء بحملها الجبال, ومع أن نشاط أعماله موسمي, إلا أنه أصبح بقدرة العلي القدير, دائم طوال العام, لا يكاد صاحبنا بسببه يجد طعماً للراحة, وإن كنت أظن أن سبب إجهاده الدائم هو ما يبذله من طاقة للحفاظ على سيارته المتهالكة التي تعاقبت عليها السنون مع صاحبنا ولم يفكر يوماً في تغييرها أو التخلص منها برغم ما تريه تلك الماكينة من شتى صنوف وأنواع العذاب, وإن كنا في عصر يقال أن المعجزات فيه قد انتهت, إلا أن "جوز خالتي" وعربته قد أثبتا أنه ما زالت هناك معجزة واحدة, وهي قدرة هذه الأعجوبة المتهالكة على السفر لمسافات تتعدى المائتي كيلو متر لعدة مرات في العام بلا مشاكل إلى الآن.
والجدير بالذكر أن هذه السيارة المتهالكة هي إرث قديم من والده, ويعتبر هو "أول مالك" لها, وأظنه من المفهوم والبديهي أنه حين يبدأ الكلام في الميكانيكا, تتحول جميع السيارات بالقدرة الإلهية إلى ألعاب أطفال قام صاحبنا بفكها وتركيبها العديد والعديد من المرات, وبكلام مفعم بالثقة تجد لديه الحل المكين والمتين لأي عطل لديك.
ومن قدرته الفائقة على تركيب السيفونات وإصلاح البوتاجازات, إلى ظبط أطباق الإستقبال وإصلاح أعطال الكهرباء انتهاءً بذبح العجول والخرفان , رأيت نفسي أُذهل بشكل دائم لما لهذا الرجل من إمكانات وقدرات قلَّما وجدت في شخص واحد, وإن كان بعضها صحيحاً, إلا أن لهجة الواثق والعالم بغير علم تجعلني أنفر من أي اجتماع يضمنا منفردين أو في جماعة, فهو فوق طاقتي واحتمالي, وإن كنت أجد في ذلك صعوبة حتى لا أغضب مني الأقارب والأحباب, فهو في النهاية... "جوز خالتي"
انا حاسس انى اعرف جوز خالتك ده انا ياما قابلت ناس زيه ربنا يشفى
ReplyDeleteكل واحد فينا أكيد قابل "جوز خالتي" بشكل أو بآخر, المهم التعامل معاهم يكون ازاي؟
ReplyDeleteشرفتني بحضورك :)
لا حول ولا قوة الا بالله!!
ReplyDeleteتصدق خالتك صعبت عليا:)
انا اعرف واحد زي الشخصيه دي بس زياده علي الصفات المذكورة انه مش بس بيتكلم في كل حاجه لا ده كمان بيقلل من قيمه الناس ويتهكم بكلمات لاذعه علي جميع الاشخاص بما فيهم الحاضرين وده بيخلينا مش قادرين نجاريه او نسمعه اصلا بس في نفس الوقت مش بنقدر نوقفه لانه للاسف راجل كبير
ReplyDeleteنفس الأزمة اللي احنا فيها برضه، سنه مش سامحلنا نرد عليه، ربنا يهديه
ReplyDelete