Thursday, January 15, 2009

عظمة زائفة

تندفع إلى أذنيه الأصوات، ضجيج وصخب اعتاده برغم عدم قدرته على إحتماله، يحاول التآلف معه فَيُحَوِّر الأصوات علَّه يخلق من هذا العبث ما تطرب له أذنيه، أصوات الدواليب المندفعة على أسفلت يحاكي لونه السواد، وأصوات بشر يتداخل بعضها ببعض بين فرح وغضب ولا مبالاة، وأنين صمت يجاهد ليجد له وسط الزحام موضعاً فيرتد خائباً وكأن السكون لم يقدر له أن يحيا في هذا المكان بالذات. 
جرت عادته على المشي سريعاً, لا تدري أهروبٌ هو ممن حوله, أم رغبةً في استباق الجميع إلى ما لا يعرفه, إنطلقت عيناه إلى أفق اعتاد مرآه فوجده اليوم على إختلاف, تراءت له القبة والمآذن, بناءٌ له من العظمة ما يأسر القلوب ويبعث في جنباتها الرهبة, ماله اليوم يبدو مختلفاً؟ القبة هي هي, بإستدارتها الغير كاملة, وكأنما أراد بانيها احتواء السماء ولكنها استعصت عليه, فاكتفى بجزء منها تضمنته الأحجار فَرِحة بنصر زائف على جبروت الفضاء. صراع احتدم بين السماء بظلامها والقبة المغتصبة, دار في خياله, تخيل صولات وجولات بين الكائنين العظيمين, انتهت برضوخ الكيان الأعلى لرغبة الأدنى في اقتباس البعض من عظمته, وما يضير السماء اغتصاب هذا البنيان الضئيل بعضاً من عظمتها؟ لن ينقص من قدرها شيئاً ولن تتعالى الضحكات ساخرة من ضعفها, فليس في الأمر ضعف ولا قوة, بل تعالي المانح وسمو الواهب على من أراد ما ليس له, فيعطي مستهزءاً من تفاهة مقدار ما يعطي. تراءت له عظمة الهيئة برغم تفاهة المضمون, فطافت بين ثنايا فكره خيالات, ما أعجب هذا الإنسان, يتطاول في بنيان ما لا يقدر على الإلمام به, فمن كان يتحدى حين رفع هذا الكيان على الأرض طمعاً في البعض من السماء؟ نظر بعيني الحقيقة إلى الأبراج الشاهقة من حوله, نظرة مختلفة, تغاير الأولى وتبعث في روحه تساؤلات من نوع آخر, يراها هي الأقرب إلى الواقع, لم تقم رغبة في اغتصاب ما ليس لها, بل خُلٍقَت لتحتوي بانيها بكل ما له وما فيه, بحياته ومماته, بحركته وجموده, بفرحه وحزنه, بغضبه وفرحه, لا تجد بين جنباتها ما يبعث في الروح تساؤلات, فكل ما فيها واضح وصريح, لا مواراة ولا مداراة. عبثاً حاول من قبل تخيل ما يجري في هذه الأبنية, تخيل البشر في رحلات ذهابٍ وإيابٍ دائمة, لم يسعفه عقله المحدود على التخيل حتى, ما يلبث بعد قليلٍ إلا أن يعلن الإستسلام ويذعن لما يراه عصياً على الإحاطة, ويمضي في طريقه لا يهمه إلا اللحاق بالركب, فالجوع قارص, والجسد متعب, ولا مجال للإنشغال عنهما إن علا صوتهما وظهرت شكواهما

No comments:

Post a Comment