Tuesday, December 6, 2011

أبو طارق

أحسست أنها لن تكون رحلة عادية تلك التي ستجمعني بهذا السائق، فالصخب الذي صاحب معرفته بأنني سأقوم بنقل "أنبوبة بوتاجاز" في سيارته، جعلني أدرك أن رحلتي معه والمقدر لها ربع الساعة، لن تكون بالصامتة، فما أن أخبرته -من باب الكياسة- أن لدي أنبوبة أرغب في نقلها في سيارته، حتى انطلق في حماسة أفزعتني بعض الشيء، قائلاً "وماله، ما أنا كمان معايا أنبوبة" وحيث أنني ظننت أنه يتحدث عن أنبوبة الغاز الطبيعي التي تسير بها السيارة، فلم أعلق، فلم أجد ما أعلق به، ولكنه كررها حتى اضطررت في النهاية إلى التجاوب معه في برود "ربنا يستر بقى وما نتثبتش في الطريق".

الاسم كان "أبو طارق" والمهنة هي سائق تاكسي وموظف بشركة الكهرباء، والأزمة التي يواجهها تتعدى أزمة العديدين في مدينتنا من حيث كونها أزمة "أنبوبة" فقط.

بدأ الحديث بيني وبين أبو طارق كالعادة بين أي مواطنين مصريين أصيلين بالسب واللعن في آباء وجدود المسؤولين، بداية من المسؤولين عن مستودع الغاز مروراً بالفائز الجديد بمنصب النائب بمجلس الشعب، والذي اعتبره أنا منافقاً ويعتبره أبو طارق "ابن ستين كلب كداب وملوش لازمة"، حتى وصلنا إلى صديقه الذي ما أن علم بالأزمة التي يتعرض لها أبو طارق، وما أن علم أنه قد حصل على الأنبوبة بسعر ٣٥ جنيه حتى لام على الرجل أنه لم يلجأ إليه، فلديه ٤ أنابيب "استبن" في المنزل، وحين راوده "أبو طارق" عن إحداها، أبى الصديق الوفي أن يعطيها إياها إلا بعد أن يقوم بإعطائه أنبوبة أخرى فارغة مكانها، فكما يقولون، الصديق وقت الضيق.

الأسطى "أبو طارق" لم يهتم كثيراً بمشكلة الأنبوبة، فليست هذه هي كبرى مشاكله، ففي دقائق الصفاء التي جمعتنا، حكى لي عن أزمته التي ابتلاه الله بها منذ شهر فبراير الماضي، وذلك حين سُرقت سيارة الأجرة الأخرى التي يمتلكها، فيقول "أبو طارق" حاكياً لي عما حدث:
أنا رحت النيابة عشان ياخدوا أقوالي في المحضر، وأنا داخل عند وكيل النيابة لقيت محامي بيقول لي "خير يا حاج، داخل في إيه؟" قلتله "العربية مسروقة وداخل أدي أقوالي" ويحكي أبو طارق عن كيف قام هذا المحامي بطمأنته بشكل مبالغ فيه أنه "خير إن شاء الله، ما تقلقش يا حاج، كل حاجة هتبقى تمام، ما تقلقش خالص، الموضوع بسيط إن شاء الله"، ويستمر الكلام على لسان "أبو طارق" مستعجباً من هذا المحامي "بعد ما دخلنا عند وكيل النيابة، فوكيل النيابة بيقول له وحضرتك مين؟ فراح المحامي رادد فلان الفلاني حاضر عن المجني عليه، ولحد كده والموضوع مفيهوش مشكلة، عادي، قلت بقى وأنا خارج ومن باب الذوق يعني هديله ٥٠ جنيه في إيده، ولو إنه ما عملش حاجة.

يضحك "أبو طارق" عند وصوله إلى هذا الجزء من الحكاية، وأحس بعصبية وتحفز في الكلام حين أخبرني "المحامي أول ما شاف الخمسين جنيه دول قال لي إيه ده يا حاج؟ ٥٠ جنيه؟ رحت قايل له أمال عايز كام؟ فالمحامي رد، قال ٥٠٠ جنيه. هنا ركبني عفريت بقى -والكلام لأبو طارق- وشوطت في الراجل، ٥٠٠ جنيه عشان يا دوب دخلت لوكيل النيابة قلتله إسمك وإنك حاضر معايا؟ وعمال تعمل لي هُلليلة وان شاء الله بسيطة يا حاج وما تقلقش وما تتنيلش، حسستني إني داخل في جريمة قتل مش عربيتي هي اللي مسروقة، والظاهر إن المحامي كان متعود على الكلام ده، فقال لي"يا حاج أمال انت عايز إيه؟" قال له مش عايز حاجة، أنا ما قلتلكش تيجي أصلاً، انت اللي جيت رميت نفسك، ما انت لو محامي محترم ما كنتش تعمل كده، أنا أهو سواق تاكسي، ما بقفش كل شوية أقول للزباين "عايز تاكسي" واللي بيعمل كده سواقين الملاكي اللي دي مش شغلتهم، زي ما انت كده شغلتك مش محامي أصلاً...

ويستمر الحديث لأبو طارق في حسرة وغضب "رحت حكيت اللي حصل ده لواحد صاحبي وبقول له "هو أنا داخل في إيه بالظبط؟ عربيتي اللي اتسرقت ولا قتلت قتيل؟" فلقيت صاحبي اتقلب على روحه من الضحك، واللي زاد وغطى ألاقي الواد ابني بيقول لي أنا هخش حقوق، قلت طلاق بالتلاتة ما يحصل أبداً يا ابن الكلب، ومراتي تقول لي إيه اللي انت بتقوله ده، قلتلها هو كده، طلاق بالتلاتة ما يعتبها، عايزاه يطلع محامي يلف في النيابات والاقسام بيشحت؟ ده انت يا جدع -موجهاً الكلام لي هذه المرة- تدخل القسم من دول تلاقي ناس مرمية في كل حتة، ويعمل إيه بقى، مش ييجي يعرف نفسه إنه محامي ولا حاجة، لأ، يلاقيك انت وواحد صاحبك بتتكلموا، يروح واقف جنبيكم يسمع الكلام، لحد ما يلاقي فرصة ويدخل "بالظبط كده، هو ده الصح اللي يتعمل، ولو عايز أي مساعدة، أنا تحت أمرك"، شغل تلقيح جتت وبلاوي زرقة.

انتهى الجزء المضحك في قصة "أبو طارق" وفوجئت بتبدل تام في صوته وكأنما يوشك على البكاء، وزفرة طوية حارة في هذه الليلة الباردة، أعقبها بقوله "انت عارف اللي مضايقني في اللي حصل ده كله إيه؟ مش العربية اللي اتسرقت، ولا المحامي اللي كان عايز يضحك عليا، أنا اللي حارقني ان شركة التأمين لحد دلوقتي مش عايزة تعوضني عن العربية عشان ظابط ابن وسخة كتب في المحضر إنها اتسرقت بسبب الإهمال"

سألته "إهمال ازاي يعني؟" فأجاب "اللي حصل بالظبط إني في اليوم ده كنت واقف في الشارع اللي الميكروباصات بتنزل فيه الزباين، على أساس لو فيه زبون عايز تاكسي أبقى واقف هناك وأهو الواحد يرزق، اللي حصل إني لما كنت واقف لقيت موتوسيكل وقف جنبي، واحد رَفَّعني بطبنجة، والتاني أخد المفاتيح وأخدوا العربية ومشيوا، رحت أنا القسم عشان أعمل المحضر، فالضابط سألني على اللي حصل، قلتله كل اللي حصل، راح طالعلي بشوية حاجات بقى غريبة ما تعرفش إيه قصتها، يقول لي هاتلي وصولات الأقساط اللي بتدفعها عشان التأمين، رحت مروح وجبتهاله، قال لي استنى هنا شوية، وعليها ساعتين ولا عبرني، وبعد ما قعدت أكتر من ٦ ساعات في القسم من ساعة ما العربية اتسرقت، لقيته بيقول لي روح على المكان اللي اتسرقت فيه العربية واستناني هناك عشان أروح أعمل معاينة"

فوجئت شخصياً بهذا الرد من الضابط، وتوقعت ما كان من "أبو طارق" وتأكد لي ما توقعته حين قال "أنا بقى ساعتها ركبني عفريت، رحت قايل له، تروح تعاين إيه؟ بقول لك العربية اتسرقت، اتنين رفعوا عليا سلاح وسرقوا العربية، يعني حتى ما فيش قزاز اتكسر، تروح تعمل معاينة على إيه؟ تصدق انك راجل ابن دين كلب"

هنا ابتسم "أبو طارق" في مرارة وقال "وبكل بساطة، راح كاتب في المحضر إن العربية اتسرقت بسبب الإهمال، عشان أنا سبت العربية مفتوحة ونزلت أصور ورق لنفسي في مكتبة قريبة، وطبعاً، التأمين ملوش فيه، المحضر الرسمي بيقول كده".

كنا قد وصلنا حينها إلى المنزل، وعلى قدر ما كانت حكاية "أبو طارق" مأساوية، على قدر ما أحسست بالخجل حين جاءت لحظة الحساب، فقد أحسست بنفسي مدفوعاً إلى زيادة الأجرة بمقدار ٥ جنيهات، ولكنني حين حسبتها، فليس هذا بالمبلغ الذي سيساعد الرجل، وفي نفس الوقت، فأنا في حالتي الحالية لا أستطيع التخلي عن هذا المبلغ، لعن الله البطالة والضباط.

Thursday, July 21, 2011

وحشتني يا سيادة الرئيس السابق

فجأة، وبدون أي مقدمات انتابني ذلك الشعور المؤرق بالوحشة، افتقدته، بعد خمسة وعشرين عاماً من تواجده الدائم واعتيادي على طلته البهية من آن لآخر... افتقدته


من لنا بعدك يا سيادة الرئيس السابق؟

حتى الآن لا أصدق أنني أقولها... "الرئيس السابق"...

من سيفقدنا الأمل في حياتنا من بعدك؟ من سيطرح عن عقولنا أي خاطر للحرية في غيابك؟ ومن سيقضي على أحلامنا من قبل أن تولد وأنت غائب عن دنيانا؟

لا أفقدنا الله حسك يا سيادة "الرئيس السابق"، فحسك في دنيانا هو ما يساعدنا في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الوطن على إدراك أنه لا يوجد أمل، ولا ثمن نجنيه من وراء أفواه كممت، وعقول تم الحجر عليها من قبل أجهزتك، ودماء سفكت بأيدي سفاحي وزارة داخليتك.... داخليتك أنت فقط، ملكك أنت وحدك، تفعل بنا ما تشاء، ويتلذذون ويتفننون في أن يفعلوا هم ما يشاءون فينا بلا رقيب أو محاسب، ويبقون هم في النهاية، وحتى بعد أن أصبحت لنا الكلمة العليا، هم أسيادنا، ولا نجرؤ في يوم من الأيام على رفع عين أو حتى إصبع في وجه أصغر فرد فيهم، كفاهم الله "بواختنا"، وأعانهم علينا وعلى طلباتنا الحمقاء بحقنا في المعاملة بآدمية.

من لنا بعدك ليشعرنا باليأس في أن يصبح الحال في يوم من الأيام أفضل؟ ومن لنا في غيابك ليختار لنا أشخاصاً مسئولين عن سرقتنا وإهدار كرامتنا ليل نهار؟

يقولون أنك لم تنسانا وأنت ترحل عنَّا، فاخترت لنا شخوصاً معينين ليكملوا المسيرة من بعدك، حفظك الله وحفظ أموالك وأموال عائلتك الكريمة من كل شر، فهكذا اعتدنا منك دوماً، اعتدنا ألا تفوتك فائتة، ولا تخفى عنك خافية، ولا تتوانى أبداً في توفير سبل الضنك والمهانة لنا أينما كنت وفي أي موضع تواجدت.

ولكنني أعتب عليك يا سيادة "الرئيس السابق" في أنك تعاملت معنا برفق قبل رحيلك، فمثلنا لا يستحق كل هذا العطف من قبل سيادتكم، ثلاثمائة شهيد فقط؟ وألفان أو أكثر من الجرحى فقط؟ إما أنك قد اكتفيت بحصيلة قتلانا في عهدك الممتد لثلاثين عاماً واعتبرت أنها كافية، وإما أنك بالفعل كنت ضعيفاً، وحاشا لله أن تكون سيادتكم يا سيادة "الرئيس السابق" ضعيفاً...

فقد ملأت الدنيا علينا بحكمتك ومنطقك وقوتك وجبروتك وعظمتك وعظمة أجهزتك المسخرة بأمرك، عينت على حراسة أفواهنا وعقولنا جهاز أمن دولتك، وعينت على قلة راحتنا وامتهان كرامتنا جهاز شرطتك، وخسفت بعقولنا أسفل سافلين بأجهزة تعليمك، وبعت أراضينا وممتلكانا بوزارة إسكانك، وطورت محاصيلنا بوزارة زراعتك بما يجعلنا زبائن دائمين لدى وزارة صحتك، وعينت سماسرة على آبار غازك ونفطك، وأعلنت إعانتك لنا بوزارة تضامنك، وحافظت على آثارنا بوزارة سياحتك، وقدمت لنا فنا رفيعاً لا تشوبه شائبة كذب أو رياء أو تضليل بواسطة أبواق وزارة إعلامك، وأخذت منا ضرائب لإعلاء دولتك فرضتها وزارة ماليتك، ولم يبق حزب إلا حزبك، لك كل الشكر أنت وابنك..

كانت البلاد كما ترى يا سيادة "الرئيس السابق" هي لك، بكل ما فيها وما عليها لك، وكان يحق لك أن تفعل فيها ما تشاء وما تحب وترضى، وكان منا كل الرضا والشكر والثناء، فأنت مهما كنت، بطل حربنا المجيدة بدون منازع، فأنت حامينا ورافع رايتنا، أنت من جعل للمصري قيمة في جميع دول العالم التي سافر إليها ساعياً إلى تحسين ظروف معيشته، ليس لأن معيشته في دولتك صعبة حاشا لله، ولكنه الطمع، عافاك الله منه أنت وأسرتك، الطمع الذي يجعل الإنسان لا يقنع بما لديه، بل يبحث عما هو أكثر وأكثر، مما أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن...

وصلنا إلى أنك غريب في بلدك، أو جزء من بلدك عمدت أن يكون تابعاً لها فقط من حيث أنه على أرضها، لكن في حقيقة الأمر، فهذا الجزء لا يتبع لبلدنا في شيء، ولعلك كنت تشعر أن يومأً مثل هذا سيأتي فأخذت احتياطاتك، وهو ما عهدناه منك دائماً، رجل حصيف وحكيم يحسب لكل خطوة ألف حساب.

كفاني رياءً ومحاباة، فأنا لست بباكٍ عليك ولا آسف، وإن شعرت بالوحشة فهي عقدة حنين زُرعت في روحي بسبب جثومك على صدري طوال عمري بلا مبالغة، فقد ولدت بعد جلوسك على عرش أم الدنيا بأربع سنوات، وحتى وقت قريب، لم آمل في حياتي أن يكون لي رئيساً إلا أنت، حتى جاء أناس مثلي..

كلا، ليسوا مثلي، بل هم أفضل وأفضل وأفضل...

كانوا في الشوارع يهتفون بسقوطك، وكنت أنا في منزلي أتأمل، نزلت معهم متأخراً جداً، لم أدفع ثمناً من دمائي، ولم أضرب بعصا أو بكف، ولكنني استنشقت غازاً سلطت به ظباط داخليتك على أبنائك، كدت أموت اختناقاً مرتين، خفت على حياتي أن تضيع، رأيت الموت بعيني مرتين، كادت حياتي أن تسلب مني لسبب لا اعتبار له لدى سيادتكم... بسبب حريتي وكرامتي

حريتي التي سلبت مني حين لم أقدر من قبل على الكلام خوفاً من أن تفتقدني أمي، وكرامتي التي انتهكها أمين شرطة في يوم من الأيام حين فتشني في الشارع أمام المارة من باب "الاشتباه"

أتحدث عن نفسي فقط، فإن فتحت الباب لكل من له شكوى فلن تسعفك صحتك يا أيها "الرئيس المخلوع" أن تقرأها كلها، ولعلك من الأساس لن تقرأ ما أكتبه الآن، فمن شب على شيء شاب عليه، وأنت عودتنا دائماً أنك لست بقارئ ولا مستمع، ولست بمهتم أو مبالي، وليس واجباً عليك أن تتابع وأن تتحرى، هكذا اعتدنا عليك، ومن هذا مللنا، ولأجل هذا صرخنا وسنظل صارخين، حتى ترحل أنت وذيولك من على أرض هذا الوطن العزيز، الوطن الأغلى من شخصك وحزبك وأجهزة أمنك وفلول بلطجيتك

هذا الوطن... اسمه مصر، وليس محمد حسني مبارك