قرأت للأستاذة "فاطمة ناعوت" مقالها في المصري اليوم, يوم الإثنين 17 نوفمبر 2008, ولشد ما أستمتع بقراءة مقالات هذا الكاتبة الرائعة, فماذا كتبت؟ وماذا كان ردي؟
هل الكتابةُ فنٌّ؟ طبعا، لكن ليس كثيرا. هل القراءةُ فنٌّ؟ أعظمُ الفنون وأمتعُها. ثمة قارئٌ يقرأ النصَّ، أدبيا كان أو فلسفيا أو علميا، فلا ينالُ إلا معلومةً هنا وفكرةً هناك. تلك قراءةُ الموتى.
وثمة قارئٌ يعرفُ كيف يجعلُ كلَّ كلمةٍ يقرأها مُلهِمةً وفاتحةَ دربٍ ومِفصلَ طريق. متعةً، لا عقليةً وروحيةً، بل فيزيقية أيضا. تلك قراءةُ الفنِّ، أو فنُّ القراءة. جرّبْ أن تقرأ وكأنك تتلصص على الكاتب وهو فى لحظة انتشاء عُليا.
فالكاتبُ حين يكتبُ قصيدةً أو قصةً أو حتى أطروحةً فلسفية، لا شك يكون فى لحظة نشوة. وأنتَ حين تقرأه تحصدُ متعتيْن، لا واحدة.
متعةُ إعمالِ العقل، ومتعةُ مراقبة إنسان يتمتع. كأنك تمسكُ مِشرطا وتُشرِّحُ مخَّه. لتتلصّصَ على خِزانته فتفتحَ أدراجها السريّةَ وتختلسَ النظرَ لأشيائه.
أىّ متعة! أحيانا تفوقُ المتعةُ مقدرتَك على تحمّلها، فتترك الكتابَ وتنهض لتتمشى فى الغرفة حتى تتزن، ثم تعاود القراءة. لا شك الأمرُ يعتمد بالأساس على المادة المكتوبة وعلى كاتبها، فبعضُ إبداع كافكا وزوسكيند وبودلير وفوكنر، وحتى من الكلاسيكيين مثل بوشكين وتشيكوف، تجعلك تتوقف عدة مرات أثناء القراءة وتنظر إلى السقف حتى توقفَ سيلَ المتعة التى تضربك من هنا وهناك، وأنت غيرُ قادر على استيعابها بنفس سرعة ضربها لك! تتوقف.
لتمنحَ نفسك زمنا يسمح لعقلك بامتصاص الجمال واستقطاره قطرةً قطرة. قصصُ إبراهيم أصلان، حتى القصيرة منها، لم أقدر أبدا على قراءتها دفعةً واحدة. لابد أن أنهض مرةً أو مرتين لألتقط أنفاسى دقائقَ وأمرّر الوقت فى أشياءَ تافهةٍ، مثل عمل كوب شاى أو النظر من الشرفة أو حتى تأمل كفّ يدى فى بلاهة. ليس صحيحا، كما يشاع، أن النصَّ الممتع يجعلك تركضُ فى القراءة وتلهثُ وراء الصفحات.
ربما ينطبق هذا على النصِّ المثير، وليس الممتع. مثل الروايات البوليسية أو تلك التى تتلاحق أحداثُها فى تتابع وتراكم حتى تصل إلى ذروة النص، ثم النهاية. أنت تقرأ سريعا لأنك تريد أن تعرف ماذا سيفعل البطل، وليس لأن النصَّ جميلٌ فنيًّا.
ذاك أن كثيرا من فرائد الأدب لا يحمل أى أحداث أو حبكة. رواياتُ فرجينيا وولف وجيمس جويس، ومسرحياتُ هارولد بنتر وصمويل بيكيت، وقصصُ أصلان لا تحملُ أحداثا، بل لقطاتٍ فريدةً ولحظاتٍ وجوديةً لا تتكرر. تحمل، كما يقول الشاعر، رائحةَ الوردةِ وليس الوردةَ، تحملُ ابتسامةَ الطفلِ، وليس الطفلَ، صوتَ خرير الماء، وليس الماء، تحمل الحُبَّ والحزنَ والفرح، وليس الحبيبَ والحزينَ والسعيد.
أى تحملُ أثرَ الشىء وظلَّه، وليس الشيءَ نفسه. هى نصوصٌ لا تجعلك تفهم، فليس هذا وظيفةَ النص الأدبى، بل هى تزيدك حيرةً وسؤالا وهَمًّا! ذلك هو إعجازُها. النقصُ والكمال معا.
الوجعُ واللذةُ معا؟ هل يجتمعان؟ نعم. شىء يشبه الضرسَ الموجوعَ الذى نضغط عليه ليزدادَ الوجعُ وتزداد اللذةُ بالوجع. يقول رولان بارت فى كتابه «لذة النص»: «إن فرنسيًّا من أصل اثنين لا يقرأ، وهذا يعنى أن نصف فرنسا محروم من لذة النص. لكن إحصاءات الأمم المتحدة تقول إن الفردَ العربىّ يقرأ «ربع صفحة» سنويا!!! يا إلهى! لماذا وكيف سمحنا لأنفسنا أن نضحى بلذّة كبرى اسمها «القراءة»؟
كيف للمواطن العربي أن يشعر بلذة القراءة إذا لم يتم إنشاءه على استشعارها؟؟
بداية معرفة المواطن العادي بالقراءة تبدأ في المدرسة, وهو ما سبب إنعدام الذوق وعدم القدرة على الإستمتاع.
بدءاً من نصوص تفتقر للجمال وحصر هدف القراءة بالحفظ فقط من أجل تفريغ ما تم حفظه على أوراق الإجابة في الإمتحانات العقيمة التي تتطلب إجابات ثابتة تحتمل الصواب والخطاً فقط بدون أي مراعاه للبعد الفني في النص, فتأتي الأسئلة على غرار, ما مرادف كذا, وما المقصود بكذا, وهي جميعها أسئلة الهدف منها قياس قدرة الطالب على الحفظ وليس على الفهم والتذوق.
النصوص -ولست أعني الشعر هنا- المقررة, قمة في الضعف ولعل من يتذكر ما درسناه منذ خمس أو سبع سنوات, يتذكر أنها جميعاً وبلا استثناء, نصوص تاريخية بحتة, والمعروف أن هدف الكتب التاريخية هو التأريخ وعرض الحقائق, مما يحصر القارئ في الحيز الضيق للوقائع والحقائق الغير قابلة لإختلاف التفسير.
من وجهة نظري, البداية ستكون عندما يتغير النص المقرر في المناهج ليعمل على تنبيه الفكر وشحذ الحواس وإطلاق العقل في المعاني المقصودة, ولن يتأتى ذلك بالنصوص التاريخية.
أذكر أنني حين درست قصة الكاتب الكبير يوسف إدريس, كانت ردود الفعل من زملائي تحمل الكثير من الإستهزاء, فما الغرض من روي قصة عن فتاة تحمل صاجات العجين وتنظر بعين يملؤها الحزن لصبية يلعبون؟
رد فعل طبيعي ممن اعتاد طوال حياته على أن تقدم له وقائع وحقائق, لا أحداث تحمل التأويل كلُ بحسب رؤيته.
وأتفق مع الأستاذ سعيد بأنه من قبل المدرسة, يمكن إدخال متعة القراءة في نفس الطفل عن طريق المجلات والقصص المصورة, فهي أول الطريق المؤدي إلى جنائن الأدب الكبرى, فلا نتوقع من الطفل أن يبدأ بقراءة الروايات والمسرحيات, وهذا هو واجب الآباء في هذه المرحلة.
القراءة لك يا سيدتي هي إحدى المتع القليلة المتبقية لي في هذا الزمن, فلا تحرمينا منها ولك مني وافر التقدير والإحترام