كانت الساعة تقارب الخامسة فجراً حين وصل إلى حلوان، هذا الوقت الذي يحلو فيه
المشي في الشوارع الخالية إلا من عاشقي الليل ومحترفي الهدوء الذي يخيم على
المدينة، فتبدو لك كأنها لم تعرف صخباً قبل ذلك، حين تسير في الشوارع فتظهر لك من
مبانيها الساكنة الحزينة ما استتر في الصباح خلف المعروض من باعتها الجائلين طوال
اليوم في صخب، وتدهشك تلك القدرة
العجيبة على أن تقوم بعض الملابس أو الأحذية المعروضة هنا وهناك بإخفاء بنايات
كاملة وكأن ليس لها وجود، وكأن الشوارع ما رأت إلا هؤلاء الباعة حديثي العهد
بشوارع المدينة القديمة.
كان على وشك الانطلاق في هذه الأفكار عندما قاطعه استفسار بصوت خفيض، صدر
عن فتى رقيق الحجم لم يهتم بالتدقيق في ملامحه، وكان الاستفسار غريباً في حينه، حيث
أنه لا يوجد من الغرباء من يأتي لحلوان في مثل هذه الساعة ويسأل على محطة المترو.
وكانت الإجابة مقتضبة "آخر الشارع، بعد ناصيتين."
ثم جاء الطلب من الشاب على استحياء "استأذنك توصلني معاك؟"
ساورته الشكوك ومن بقعة ما في عقله ظهرت تلك الحكايات التي تحذر من الغرباء
في زمننا الغريب، فقال في محاولة أخيرة مشيراً بيده إلى اتجاه المحطة
"المسافة مش بعيدة، امشي كده وهتوصل"
فكان الإلحاح من جانب الشاب بنبرته المهذبة وبصوته الخفيض أصعب من أن يتمكن
من تجاهله، فوافق في النهاية "تعالى معايا"
قبل أن تكتمل خطوتان من الطريق، وجد أن الفتى قد تعلق بذراعه، وفي ضيق واضح
أراد أن يكون جارحاً قال "انت شايف إن ليه لازمة يعني الكلام ده؟"
وجاءت الإجابة على استحياء، بسيطة، وقاتلة:
"معلش، أصل أنا ما بشوفش كويس"
حينها يدرك أنه لو كان قد دقق في صفات هذا الفتى خفيض الصوت لوجد قامة
هزيلة، ضعيفة، تحاول جاهدة أن تملأ فراغ القميص الفضفاض بلونه الباهت المحاكي
لسماء ربما لم ترها عيناه يوماً، وشعر داكن مسرح بعناية إلى الجانب فوق رأس مستدير،
وظهر محني في استكانة واستسلام، وعينان شبه مغلقتين يظهر جزء من بياضهما حين يرفع
الشاب رأسه ويلقيها إلى جانب حتى يسمع بشكل أفضل ما يقال له.
تنطلق منه عبارات الأسف ويتلقاها الشاب ويقبلها في كرم مخجل وبأدب يجعل
صاحبنا يتوقف عنها فجأة حين يدرك أن الفتى لديه هذه القدرة على أن يلقي اللوم على
نفسه ويجعل اعتذارك يبدو وكأنه صادر منه هو وليس منك وكأنه طلب للعفو عنه بسبب
إعاقته، وكأنه أدرك الحرج الذي أصاب صاحبنا فجعل يحيله إلى نفسه وبشكل خفي أصبح
الشاب هو المسؤول عن هذا الحرج، وكأنه يقول "لو لم أكن ضريراً لما وضعتك في
مثل هذا المأزق"
تأخذهما خطواتهما باتجاه المحطة ومع كل خطوة يلعن صاحبنا نفسه في السر على
صفاقته ويتبادل الحوار في العلن مع الشاب، فيدرك أن اسمه "أحمد" وأنه قد
فاتته الحافلة التي تذهب به إلى مدرسته في حدائق القبة لذلك اضطر للنزول إلى حلوان
–حيث أنه يسكن في إحدى الضواحي- لاستقلال المترو، وأنه كان عالقاً في مكانه الذي
وجده فيه بانتظار المساعدة من أي من المارة الشحيحين في هذا الوقت للذهاب إلى
المحطة.
لم تكن رحلتهما إلى المحطة لتستغرق دقيقتين، ولكنها امتدت إلى عشرة حين
وجدا أن الشوارع غارقة في مياه تسربت من إحدى المواسير المكسورة، فاضطرا إلى
المحاورة والمناورة مع الطرقات التي ضاقت ببضاعة يحاول أصحابها إنقاذها من الغرق،
ويحاولان مع هذا الطريق وذاك فلا يفلحان إلا في المحاولة الثالثة وعلى مضض، كل ذلك
والفتى متعلق بذارع صاحبنا تعلق قشة بكنزتك الصوفية، ويُراع صاحبنا لمثل هذه الخفة
بالفتى، ويرغب أن يصرخ به "كفاك أدباً وتخلقاً، وقم بعقابي على ما اقترفت في
حقك من سوء" ويجاهد في أن يساعد الفتى على الوصول لوجهته بدون أن يتضرر بهذا
التيار المنساب في الشوارع، فيقوم بتوجيهه في محاولات غير متمرسة إلى هذه النقطة
أو تلك فيجد أن توجيهاته قاصرة وأن هذه التوجيهات قد أدت بالفتى للمشي في بركة طين
أو أن قدمه قد اصطدمت بقطعة من الرصيف فيعتذر بصدق، ويقبل الفتى اعتذاره بحرارة.
كل هذا والفتى يحادثه حيناً ويصمت حيناً بين خطواتهم المتعجلة، وصاحبنا غير
قادر على مباشرة النظر إليه، ويتبادلان الحديث المتقطع من وراء حائط من الخجل من
جانب صاحبنا، ومن وراء رقة في القول من طرف الشاب تحاول أن تخفف من وطأة ما حدث
وكأنه شيء معتاد في حياته.
وبعد انتهاء الرحلة القصيرة إلى المحطة، كاد صاحبنا أن يعرض على الفتى أن
يبقى بصحبته حتى تنفتح أبواب المحطة، ولكنه أدرك أن الوقت لا يحتمل الانتظار وأنه
لو انتظر فسيكون ذلك دافعاً أكثر للحرج لكلاهما، فما كان منه إلا أن ألقى عليه
السلام... وذهب.
جامد جداً ولكن فيه بعض الأخطاء اللغوية وبعض الأخطاء التعبيرية ولكن لو أستمريت بالشكل ده وقريت في الأدب العربي هاتقدر تعمل حاجة ألماظات
ReplyDelete