فجأة، وبدون أي مقدمات انتابني ذلك الشعور المؤرق بالوحشة، افتقدته، بعد خمسة وعشرين عاماً من تواجده الدائم واعتيادي على طلته البهية من آن لآخر... افتقدته
من لنا بعدك يا سيادة الرئيس السابق؟
حتى الآن لا أصدق أنني أقولها... "الرئيس السابق"...
من سيفقدنا الأمل في حياتنا من بعدك؟ من سيطرح عن عقولنا أي خاطر للحرية في غيابك؟ ومن سيقضي على أحلامنا من قبل أن تولد وأنت غائب عن دنيانا؟
لا أفقدنا الله حسك يا سيادة "الرئيس السابق"، فحسك في دنيانا هو ما يساعدنا في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الوطن على إدراك أنه لا يوجد أمل، ولا ثمن نجنيه من وراء أفواه كممت، وعقول تم الحجر عليها من قبل أجهزتك، ودماء سفكت بأيدي سفاحي وزارة داخليتك.... داخليتك أنت فقط، ملكك أنت وحدك، تفعل بنا ما تشاء، ويتلذذون ويتفننون في أن يفعلوا هم ما يشاءون فينا بلا رقيب أو محاسب، ويبقون هم في النهاية، وحتى بعد أن أصبحت لنا الكلمة العليا، هم أسيادنا، ولا نجرؤ في يوم من الأيام على رفع عين أو حتى إصبع في وجه أصغر فرد فيهم، كفاهم الله "بواختنا"، وأعانهم علينا وعلى طلباتنا الحمقاء بحقنا في المعاملة بآدمية.
من لنا بعدك ليشعرنا باليأس في أن يصبح الحال في يوم من الأيام أفضل؟ ومن لنا في غيابك ليختار لنا أشخاصاً مسئولين عن سرقتنا وإهدار كرامتنا ليل نهار؟
يقولون أنك لم تنسانا وأنت ترحل عنَّا، فاخترت لنا شخوصاً معينين ليكملوا المسيرة من بعدك، حفظك الله وحفظ أموالك وأموال عائلتك الكريمة من كل شر، فهكذا اعتدنا منك دوماً، اعتدنا ألا تفوتك فائتة، ولا تخفى عنك خافية، ولا تتوانى أبداً في توفير سبل الضنك والمهانة لنا أينما كنت وفي أي موضع تواجدت.
ولكنني أعتب عليك يا سيادة "الرئيس السابق" في أنك تعاملت معنا برفق قبل رحيلك، فمثلنا لا يستحق كل هذا العطف من قبل سيادتكم، ثلاثمائة شهيد فقط؟ وألفان أو أكثر من الجرحى فقط؟ إما أنك قد اكتفيت بحصيلة قتلانا في عهدك الممتد لثلاثين عاماً واعتبرت أنها كافية، وإما أنك بالفعل كنت ضعيفاً، وحاشا لله أن تكون سيادتكم يا سيادة "الرئيس السابق" ضعيفاً...
فقد ملأت الدنيا علينا بحكمتك ومنطقك وقوتك وجبروتك وعظمتك وعظمة أجهزتك المسخرة بأمرك، عينت على حراسة أفواهنا وعقولنا جهاز أمن دولتك، وعينت على قلة راحتنا وامتهان كرامتنا جهاز شرطتك، وخسفت بعقولنا أسفل سافلين بأجهزة تعليمك، وبعت أراضينا وممتلكانا بوزارة إسكانك، وطورت محاصيلنا بوزارة زراعتك بما يجعلنا زبائن دائمين لدى وزارة صحتك، وعينت سماسرة على آبار غازك ونفطك، وأعلنت إعانتك لنا بوزارة تضامنك، وحافظت على آثارنا بوزارة سياحتك، وقدمت لنا فنا رفيعاً لا تشوبه شائبة كذب أو رياء أو تضليل بواسطة أبواق وزارة إعلامك، وأخذت منا ضرائب لإعلاء دولتك فرضتها وزارة ماليتك، ولم يبق حزب إلا حزبك، لك كل الشكر أنت وابنك..
كانت البلاد كما ترى يا سيادة "الرئيس السابق" هي لك، بكل ما فيها وما عليها لك، وكان يحق لك أن تفعل فيها ما تشاء وما تحب وترضى، وكان منا كل الرضا والشكر والثناء، فأنت مهما كنت، بطل حربنا المجيدة بدون منازع، فأنت حامينا ورافع رايتنا، أنت من جعل للمصري قيمة في جميع دول العالم التي سافر إليها ساعياً إلى تحسين ظروف معيشته، ليس لأن معيشته في دولتك صعبة حاشا لله، ولكنه الطمع، عافاك الله منه أنت وأسرتك، الطمع الذي يجعل الإنسان لا يقنع بما لديه، بل يبحث عما هو أكثر وأكثر، مما أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن...
وصلنا إلى أنك غريب في بلدك، أو جزء من بلدك عمدت أن يكون تابعاً لها فقط من حيث أنه على أرضها، لكن في حقيقة الأمر، فهذا الجزء لا يتبع لبلدنا في شيء، ولعلك كنت تشعر أن يومأً مثل هذا سيأتي فأخذت احتياطاتك، وهو ما عهدناه منك دائماً، رجل حصيف وحكيم يحسب لكل خطوة ألف حساب.
كفاني رياءً ومحاباة، فأنا لست بباكٍ عليك ولا آسف، وإن شعرت بالوحشة فهي عقدة حنين زُرعت في روحي بسبب جثومك على صدري طوال عمري بلا مبالغة، فقد ولدت بعد جلوسك على عرش أم الدنيا بأربع سنوات، وحتى وقت قريب، لم آمل في حياتي أن يكون لي رئيساً إلا أنت، حتى جاء أناس مثلي..
كلا، ليسوا مثلي، بل هم أفضل وأفضل وأفضل...
كانوا في الشوارع يهتفون بسقوطك، وكنت أنا في منزلي أتأمل، نزلت معهم متأخراً جداً، لم أدفع ثمناً من دمائي، ولم أضرب بعصا أو بكف، ولكنني استنشقت غازاً سلطت به ظباط داخليتك على أبنائك، كدت أموت اختناقاً مرتين، خفت على حياتي أن تضيع، رأيت الموت بعيني مرتين، كادت حياتي أن تسلب مني لسبب لا اعتبار له لدى سيادتكم... بسبب حريتي وكرامتي
حريتي التي سلبت مني حين لم أقدر من قبل على الكلام خوفاً من أن تفتقدني أمي، وكرامتي التي انتهكها أمين شرطة في يوم من الأيام حين فتشني في الشارع أمام المارة من باب "الاشتباه"
أتحدث عن نفسي فقط، فإن فتحت الباب لكل من له شكوى فلن تسعفك صحتك يا أيها "الرئيس المخلوع" أن تقرأها كلها، ولعلك من الأساس لن تقرأ ما أكتبه الآن، فمن شب على شيء شاب عليه، وأنت عودتنا دائماً أنك لست بقارئ ولا مستمع، ولست بمهتم أو مبالي، وليس واجباً عليك أن تتابع وأن تتحرى، هكذا اعتدنا عليك، ومن هذا مللنا، ولأجل هذا صرخنا وسنظل صارخين، حتى ترحل أنت وذيولك من على أرض هذا الوطن العزيز، الوطن الأغلى من شخصك وحزبك وأجهزة أمنك وفلول بلطجيتك
هذا الوطن... اسمه مصر، وليس محمد حسني مبارك
No comments:
Post a Comment