في الواقع أن ما حدث في تلك الليلة لا يمت للواقع بأي صلة, هل كان حلماً؟ لا أدري, هل كانت حقيقة؟ لم أسمع بعد عن تلك الحقيقة التي تصل إلى هذا الحد من الخيال واللامعقول.
لا يهمني الآن ماهية ما حدث, بل أود فقط أن أحكيها, ربما مر أحدهم بما مررت به ويكون لديه تفسير لما رأيته.
كانت الدنيا ليلاً, هذا ما أحسست به, ولكن بالرغم من ذلك كانت الشمس مشرقة أو في طريقها إلى الشروق, أو ربما كانت تغرب, لا أعرف تحديداً, فقط أعرف أنني كنت أحسه ليلاً, وكنت أمشي في طريق مزدحم لا أعرفه, أشبه بالسوق, ولكنه هادئ, بالرغم من كثرة الناس من حولي, لا أعلم لم أنا هنا, ولكنني أمضي إلى بقعة رأيتها خالية منهم, وحين أصل, أجد عربة كارو بدون حمار, ولا عربجي, وبجوارها جوال من الخيش.
لا أدري ما دفعني لتفحص ما بهذا الجوال, ولكنني جلست على ركبتي, ومددت يدي, وشعرت ببرودة غريبة نابعة من الجوال المبلل بالماء, وكأن واضعه أراد ترطيب ما بداخله, لا أدري إن كان هذا ضرورياً, فأنا لا أعلم إن كان الجو حاراً أم بارداً.
مددت يدي إلى الجوال لأرى ما فيه, لأجد بداخله شخص ما, رجل عجوز أحسست بأنني أعرفه , دققت النظر في ملامحه حتى تذكرته, إنه "عم محمد"....
لا أدري من هو "عم محمد" ولكنني عرفته, وكنت أظن أنني أعرفه منذ فترة طويلة, فقمت بحمله وهو داخل جوال الخيش المبلل, لا أدري إلى أين, إحساس بلزوم إعادته إلى أهله امتلكني وقتها, بالرغم من أنني لا أعرف من هم ولا أين أجدهم, ولكنها كانت مسؤولية وضعت على عاتقي وقتها, ولن أترك "عم محمد" حتى يعود إلى منزله.
ولكن أين هو منزله؟
وجدتني أسير بلا هدي في الشوارع, أحمل "عم محمد" على ذراعي كطفل صغير, كان هادئاً وصامتاً, حاولت محادثته كثيراً ولكنه كان لا يرد, كان غارقاً في نوم عميق أو غيبوبة طويلة, ولم يكن هذا ليضايقني, فالرجل بلغ من الكبر ما يشفع له, ولكن ما ضايقني فعلاً هو ما كان يحدث لـ"عم محمد".
حين وجدته في السوق كان على جسده العديد من البقع البنية التي تجدها عند الكثير من كبار السن, وهو ما وجدته طبيعياً, واظنني كنت أراه على هذه الهيئة سابقاً, فقط لا أتذكر أين كنت أراه من الأساس.
ولكن ما رأيته غريباً هو أن هذه البقع يزداد حجمها بإستمرار وتكبر لتغطي مساحات كبيرة من جسده, أو لعل جسده هو الذي يتقلص؟
حين أخدت "عم محمد" للمرة الأولى بين ذراعي, كان ضئيلاً في الحجم فعلاً, ولكن بالتقريب كان طوله بطول نصفي الأعلى, أما الآن.. فأشعر أن جسده يتقلص وينكمش, وبدأت عظامه في البروز والنتوء, وكأنه أصيب بحالة جفاف مفاجئة, ربما بسبب هذا السوائل الكثيرة التي تغطي جلده, كانت في البداية ذات ملمس رطب وبارد, كعرق ليلة صيف تلطفه نسمات خفيفة من الهواء, أما الآن, فقد إزدادت لزوجتها وزاد معدل إفرازها.
ما الذي يحدث لـ"عم محمد"؟ ولم بدأ شكله بالتغير تدريجياً إلى هيئة غير بشرية؟ كنت أسائل نفسي بهذه الأسئلة, حين دخلت النفق, نفق كبير وعظيم, به رصيف أشبه بمحطة القطار, ولكنه أكبر من أي محطة قطارات شهدتها من قبل, به رصيفين, ولكن لا توجد أي خطوط للقطارات, وجدت نفسي بأعلى السلم الكهربائي الذي يوصل لأسفل المحطة, والغريب, أنني كنت أهبط من سقف المحطة, لم أدخل من أي بوابة, فجأة وجدت نفسي على أول السلم, “عم محمد" معلق بكتفي كقطة مذعورة, أكاد أحس بمخالبه تنغرس في كتفي رعباً كلما نزلت على السلم, ولكن لم يكن ذلك ليضايقني, أليس ذلك بغريب؟
لم يكن أي مما يحدث لـ"عم محمد" يضايقني, لا البقع البنية التي تنتشر, ولا جسده الذي يتقلص, ولا جسده الذي أصبح لزجاً, ولا مخالبه التي تنغرس في لحمي ولا حتى تلك الأصوات الغريبة التي بدأ يصدرها, لم أسمعها من قبل, لذا لا أستطيع أن أصفها, كل ما أعرفه أنه لو كنت في ظروف عادية, لكانت قتلتني رعباً, ولكنها ما دامت تصدر من عم محمد, فهي لا تعني شيئاً.
فجأة وجدتني أركض بكل ما أوتيت من قوة, أهرب من صول الجيش الغاضب الذي يطارد المجندين في هذا المكان الذي يشبه محطة القطارات, كنت أخاف على "عم محمد" من ركضي, ولكنني لم أحس به أبداً, كأنه اختفى ولم يعد له أثر, وحين أردت القفز من فوق ماكينة التذاكر -مرة أخرى, ليست بمحطة قطارات- أمسكني الصول الغاضب, مع العديد الآخرين, ووجدنا أنفسنا مصطفين في خنوع وهو يقوم بتقريعنا على استهتارنا, واختصني بالذات لأنه وجدت قميصي بلا أزرار تماماً ومفتوح بشكل وجده هو غير لائق بالجيش, وما يهمني؟؟؟ أنا لست في الجيش, لم ركضت في البداية؟ ولم يوبخني هو؟
10 شارع ألاسكا....
وجدتها تدوي في أرجاء عقلي, لم أسمع عن هذا الشارع من قبل, ولا أدري ما هو هذا العنوان, هل هو "عم محمد"؟ يحاول أن يخبرني إلى أين أذهب؟
لا أدري, ولكنني رأيت أن الذهاب إلى هذا العنوان هو خير ما يمكن أن أفعله تلك الليلة, بدلاً من التجول في الشوارع على غير هدى, وسرت في الشوارع أستدل على "10 شارع ألاسكا" من المارة, وكانوا يجيبونني بشكل عادي, وكأن "عم محمد" الملقى على كتفي ليس بالشيء الغريب, هل يعقل أنا أكون أنا الشخص الوحيد الذي يراه؟
ليست تلك المشكلة الآن, المهم أنني وصلت إلى شارع ألاسكا بالنهاية, سأصف لكم الشارع...
في الحقيقة, هو ليس بشارع, بل هو عبارة عن مربع كبير, على جوانبه الأربعة توجد بيوت كثيرة, متراصة فوق بعضها البعض, لا تدري إن كان هذا المكان راقياً أم فقيراً, له مدخلين, أحدهما هو الشارع الذي دخلت منه والآخر هو عبارة عن طريق منحدر, ذا بوابة معدنية أنيقة, تبدو كأنها مدخل لحديقة, أو لعلها بالفعل حديقة؟
لم أهتم كثيراً بسؤال طرأ على ذهني... إذا هطلت أمطار غزيرة, ألن يتحول هذا المكان إلى بركة كبيرة؟ كيف يعيش هؤلاء الناس هنا؟
بدأت أطرق البيوت, بحثاً عن منزل "عم محمد" وبداخل كل بيت, كنت أرى عائلات كثيرة الأفراد, يعيشون في حالة مزرية, ولكن كلهم لم يهمهم "عم محمد" ولم ينفعني أي منهم في الإستدلال على أهله, حتى عدت مرة أخرى إلى مركز المربع الكبير, على رصيف وضع في المنتصف كأنه ميدان, أنظر حولي في رجاء, منبهر بالطريق المنحدر ذا البوابة الأنيقة, وأحسست ببرودة تمشي على صدري, وتنتقل إلى بطني, وتجول في أنحاء جسدي, إنه "عم محمد" تحرك أخيراً ولكن إلى أين؟ يبدو أنه يريد الوصول إلى أحشائي, أهذا هو جزائي؟
لم أستطع المقاومة, ولم أحاولها, كنت عاجزاً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من ضعف, وهو يحاول ويحاول اختراق جسدي....
لا أدري إن كان قد نجح في ما أراد أم لا, فأنا أقص عليكم ما حدث من ذاكرة ضبابية مشوشة, حتى أنني لا أتذكر شكل "عم محمد" في النهاية, كيف كان, ولا في البداية, كيف وجدته, كل ما أتذكره أنه كان موجوداً, وما زال, ولكنني لا أعرف أين, لعله هو من يكتب هذه الكلمات عن طريقي, ولعله مات بداخلي, لا أدري, هل كان حلماً؟ ربما, هل كان واقعاً؟ قلت لكم في البداية, لا أظن أن هناك واقعاً به ما بهذه الحكاية من خيال.